1
حينما أزفَ ميعاد حضوري لهذه الحياة، كانت ثمة روحٌ طفلة ٌ، اخرى، ما فتئت هائمة في فضاء منزلنا، تأبى مغادرته إلى مستقرها في السماوات العلى، وعلى الرغم من أنّ جدث صاحبته، الصغير، متكوّمٌ منذ أشهر في مقبرة الحارة: هيَ quot; شيرين quot; ؛ شقيقتي، التي لم يقدّر لسعودي سوى رؤية صورتها، الفوتوغرافية. من ركن إلى ركن، تتقافز ذكريات الطفلة، الجميلة، بعدما أقفرَ الدار من حضورها المعابث، المشاغب ؛ ذكريات هي صنوٌ للروح تلك، المهوّمة، في شدّة عنادها المتشبث برغبة البقاء. رحيل أختي، صادف يومَ شتاءٍ قارص، متجهّم، جدير باللعنة وبعويل أمّها وأمّ أمّها وشقيقتيها وخالتيها وعمتيها، المنداح لأبعدَ من جذور المطر، المتهاطل وقتئذٍ بغزارة. ما عتمَ النعيُ أن لف زقاقَنا، الذي كان محتفياً دائباً بألعاب إبنته، الطريفة، الصخابة والوديعة في آن: في هذا الزقاق، الملموم على نسبٍ واحد ونعتٍ مستمدّ من النسب نفسه، إعتادت quot; شيرين quot; المضي نحو شؤون سنها ذاك، الغض، صحبة شقيقها، quot; جينكو quot;، الذي يكبرها بعام واحد. كانا في تلازم مستمر ـ كزهرة وظلها. الكثير من العابرين خلل المشادات الطفولية، المحتدمة أيامئذ، كانوا على خطل الظنّ بأنّ البنت هيَ الأكبر سناً ؛ هم الذين إعتادوا رؤيتها مندفعة بقوة دفاعاً عن شقيقها. هذا الأخير، كان آنئذٍ ما زال ذكرَ العائلة، الوحيد. وبصفته تلك ربما، أضحى فيما بعد جسوراً حدّ التهوّر، واثقا من قبضته بشكل خاص ؛ بما تعيّن عليه من الإستكانة إليها، لوحدها، داخل وخارج المنزل على السواء ؛ لوحدها، بما أنّ أخته الصغيرة، التي كانت ثمة في خضم طفولته، تعينه وتشدّ من أزره، إختفت من حياته على حين غرةٍ، غادرة.

2
قبل حلولي في نزهة الحياة، الخريفيّة نوعاً، وتشبثي بها بفضل ملبس البنات المتعيّن عليه، بوهم الأمّ، درءَ العين الشريرة ؛ قبل ذلك كله، حلّ الصباح الشتويّ، الجهم، المتيقظ على نبأ الفجيعة. يومذاك، شعرَ شقيقي لأول مرة بأنه متوحدٌ، مخذولٌ، وخائفٌ أيضاً. لمّا أرادوا أخيراً أخذ جدث الصغيرة، نوديَ على الأخوة لكي يطبع كل منهم قبلة الوداع ـ كما العادة الدارجة، المقيتة. وحينها حسب، إنتبهوا إلى إنعدام أثر ذكر العائلة الوحيد، الصغير. أخذ النداء بإسمه يتعالى في فضاء البيت والحارة، دونما مجيب. quot; إنه هنا! quot;، صرخ أحد أولاد العمومة أخيراً من مكانه في حجرة الحديقة، الجافة، الواطئة السقف. بعد سنوات اخرى، عديدة، كنت ثمة في الحجرة نفسها، أنظر إلى الدكة الخشبية، المنخفضة للغاية والتي كانت منذورة، غالباً، لرقدة ثمار البطيخ الأخضر صيفاً وحطب المدفأة شتاءً: هنا، بالقرب من البقعة الضيقة، التي عثروا فيها يومذاك على شقيقي منكمشاً وجلاً ذاهلاً، حقّ لي التساؤل عن كيفية إنسلال جسده فيها وأيّ مشاعر إنتابته حينئذٍ ؛ هوَ من كان بالكاد قد إجتاز سنته الرابعة. ولستُ على دراية، أيضاً، بما كانه شعور quot; جينكو quot;، لما هتف به بعض الأقارب: quot; صار لديكَ أخٌ الآن، ألا تريد رؤيته؟ quot;. كان ذلك بعيد أشهر عشر، تقريباً، من وفاة quot; شيرين quot;، الصغيرة، وفي خلاء المنزل نفسه، المتعالي فيه ثانية ً صراخ الأم، والذي ترجّعه باطن شقيقي، القلق، الواجف. على أنه، في هذه المرة، لم يهرع راكضاً إلى حجرة الحديقة تلك، المشؤومة، كيما يخفي نفسه. كان لديه بالتأكيد علمٌ مسبق بقرب حدث الولادة ذاك ؛ علم، مشفوع بلا شك بحيرة تأويله ومغامض كنهه.

3
باكياً، يهلّ الوليدُ على الحياة، وسط ضحك من حوله وفرحتهم: هذا قولٌ مألوف، ذهَبَ مثلاً. على أنّ ولادتي، العتيدة، لم تؤيّد المقولة تلك وأسانيدها المبرمة. بكاءٌ صامت، قدّرَ له مصاحبة حضوري لهذه الدنيا، بما كان من موافقته لخروج شقيقتي منها ؛ بكاءٌ، إجتمعت عليه الأسرة كلها، كباراً متحسّرين وصغاراً حائرين. على أنّ ذلك، على كل حال، ما كان أكثر من لحظات ذكرى، عابرة. فالمنزل آنئذٍ، سبق له أن خبرَ لون الحِداد، الأسود، وسيعتاده مستقبلاً أيضاً ـ كخبز يوميّ. رحيلٌ مضطرد، ثلاثيّ البعد ومتسلسل وفقَ دورة الزمن، ضربَ عائلتنا خلال سنين ثلاث حسب، وفي صميم عاطفتها وعشرتها. في البدء، كانت جدّتي لأبي، ثم لحقها جدّي لأمي، وإلى شقيقتي، ملاك العائلة. لما ماتت quot; سارة quot;، القوية الشكيمة والمراس ـ كأيّ ريفية، أصيلة، كانَ عزاءً لنا وجودُ الجدّة الاخرى ؛ المالئة حياة الأسرة بحضور حنون وهمةٍ متفانية. quot; صالح quot;، والد أمّي، عاش معظم سني عمره موسراً، متمتعاً بالوجاهة، ثمّ رحلَ في عز عطائه محبطاً ومتوحّداً، بعدما دهمه الإفلاس فجأة ـ كصاعقة في صيفٍ رخيّ. وإذ أبى عليّ العمر، بمصادفة قدَر طائش، أن أجزى بمرأى ذاك الجدّ، فبالمقابل نازلتني بوارق من سيرته، الآسرة، المتداولة في طول وعرض حياة الأسرة. بيْدَ أنني الآن، وبعد كل الأعوام تلك، المتصرّمة، أجدُ أن إمرأته وإبنة عمّه هيَ الجديرة حقا بأسطورة حقيقية ؛ quot; ريما quot;، جدّتي، المرأة الفريدة بكل معنى، والتي مهما يبالغ القول، فلن يبلغ ما حفلت به حياتها المديدة، العجيبة، الأشبه بمعجزة. في البدء، إذاً، كانت كلمة ُ العماء، وظلمة ُ الأبدِ سدرة َ المنتهى.

4
ـ quot; أخيراً جلبتْ لكَ أمك أخاً، وستلعب معه حينما يكبر quot;
هذا ما قالوه للصبيّ الصغير، الذي ما عادَ ذكر عائلتنا، الوحيد. كان quot; جينكو quot; ومباشرة إثر رحيل شقيقته، الأثيرة، قد هجرَ ألعاب الزقاق، المألوفة، وإنقلبَ بشكل غير متوقع إلى ولد عنيد، عدوانيّ، راح لداته يتجنبون صحبته ويتحاشون مشاكساته. مسلكه هذا، كان من الطبيعيّ أن يجدَ له أيضاً مكاناً داخل المنزل، منعكساً على شقيقتيْه الكبيرتيْن. هكذا مسلك، تفاقم مع مرّ الأيام والأعوام، ولم يجلبَ لصاحبه إلا نفوراً متزايداً ممن حوله ؛ وبشكل أحَدّ، من لدن والدنا ذي الطبع المتحفظ، الصارم. في آونة أزمته تلك، البالغة ذروتها قبيل مولد شقيقه، مباشرة ً، ما تهيّأ للصبيّ quot; جينكو quot; من ظفرَ بمعرفة خبايا داخله، ناهيك عن وعي الإستعانة بالطبّ النفسي، شبه المجهول وقتئذٍ في بيئتنا. الأمّ، التي عرفت بعاطفتها ورقتها، فضلاً عن خصها للطفولة، المذكرة، بترجيح أكيد في ميزان الأسرة ؛ أمّنا هذه، ما كان وضعها آنذاك أفضل حالاً. أضحت بدورها، ومذ وفاة شقيقتنا، منغلقة بإصرار على ذاتٍ مكروبة، كئيبة. وإذاً مجيئي للدنيا، المبرور، صادفَ منقلب حال شقيقي، الذي كان محوّطاً في مقام سام بترتيب العائلة، إلى نذير شؤم ما، قادم ـ كثمرة الشرّ. ولكنني، منذ الآن، أبادر للتأكيد بأنّ معاملة شقيقي هذا، ستكون مختلفة تماماً معي بالذات. لقد محضني دوماً محبته وحنوّه وكرمه، والأهم إسباغه على شتلة طفولتي ظلّ شجرته العملاقة، العتيّة ؛ ظلّ، أفاء سني طفولتي، حدّ أنني كنتُ بلا حول من دونه.

5
ـ quot; هيلا هوب! هيلا هوب! quot;
بعنف طيش الصغيرتين، راحت الأرجوحة تتناهى إلى أعالي سقف الحجرة الكبيرة، المنحوت من خشب الحور، البهيّ، فيما الرضيع موغل في مجاهل سباته. كانت الأمّ، المتهيئة يومئذٍ لغداء أسرتها، المتعاظمة العدد، قد عهدت بالطفل لشقيقتيه، ( التوأم المزعوم )، موصية ً إياهما بنبرة وعيد، لا أملَ فيها، الترفق بهزه في quot; القذافة quot; ؛ وهوَ السرير المعلق بنعت ذلك الزمن، المتأرجح في منتصف المسافة بين أرضية الغرفة وسقفها. بضعة دقائق اخرى، وضرب سمع الأمّ صوت إرتطام ما ـ كدويّ الرعد ؛ صوتٌ، ما عتمَ أن أصدى عنه صراخها هيَ، الهلع، المنجاب على الأثر في الجهات جميعاً. مشاغبتا المنزل، دبّ فيهما رعبٌ لا يوصف، ما عتمَ أن وجّهَ خطاهما، الملهوجة، نحو quot; اليوك quot; ؛ المكان الخفيّ، العتم، المندسّ في تجويف جدار حجرة الضيوف، الذي إعتادتا في مناسبات مشابهة على الركون إلى طيّ لحفه وفرشه. حينما هرعت جدتي نحو الرضيع، المتهالك على إسمنت الحجرة، بدا لدهشتها كما لو أنه قد أفاق للتوّ من نومة هنيّة، حتى أنّ ظلّ إبتسامة ظلت مرسومة على شفتيه، الرقيقتين. على أنّ هذا الطفل، الذي كنتهُ، ما تهيأ له حظ مماثل، في عثرته التالية. ومن برزخ الصور، الممتدّ في ذاكرة الأمّ، أستلّ شريط تلك الواقعة، التي شاءت أن تحبو على أطراف طفولتي. كنت وقتئذٍ في سنتي الأولى، مالئاً حياة الأسرة بثغائي المحبب، والذي أضحى لاحقا لثغة، مميّزة، إنطبعتْ أبداً في نطقي. يومذاك، غفلت أمي عني لدقيقة واحدة، في إطلالتها الضرورية على المطبخ، فيما كان فضولي بدوره يطلّ رويداً، عبْرَ عرَبة رباعية الإطارات، على دهليزنا الموصل أرض الديار بالباب الرئيس. ثلاث درجات من الإسمنت، عريضة، تلقفتْ الواحدة إثر الأخرى عربة الطفولة هذه، المحتبية قامتي الدقيقة والمالبثت أن إرتطمتْ بعنف إلى أسفل. لمّا قدمَ والدنا مهرولاً، إثر نداء إستغائة إبنته البكر، أخذته رعدة خوف، خفية، لمنظر الطفل المدمى. ولكونه قادماً تواً من منزل صديقه الحميم، quot; بديع quot;، تبادرت للأب فوراً فكرة إرسال الإبنة نفسها إليه، كيما يحضر بسيارته. في المشفى، الحكوميّ، إستعاد الأب لونه الحنطيّ، المعتاد، بعدما أفرغ روعه تأكيدُ الطبيب المداوي، بأنه ما من نزيف داخليّ ؛ وأنّ الأمر لا يعدو عن شقّ عميق في باطن الشفة السفلى. quot; بعدها، ما عادت صحتك كما ذي قبل نضرة بالعافية، والنحول راحَ يتبدى عليك شيئاً فشيئاً quot;، تختتم الأمّ سردها للواقعة الطفولية، تلك.

6
ـ quot; العياذ بالله من ضربة عينها، الزرقاء! quot;
هذا القول، المشفوع بتلويحة من يدها، ساخطة، إعتدنا سماعه من جدتنا ؛ قولٌ، كان يحاول عبثاً الزيغ من فضول الطفولة المحيطة به. ولكنّ رؤوسنا، وبالرغم من دقة حجمها، كانت أوسعَ مما يظن الآخرون. صبيّ وراء الآخر، مضى أبناءُ quot; بهيّة quot; في درب الزقاق العلويّ، المفضي إلى التربة، وما بقيَ لها سوى إبنة وحيدة. بالمقابل، كنا نحن الصغار مولعين، آنذاك، بجلسة هذه الجارة العجوز ( المعروفة بلقبها quot; عربيّة quot; )، المتربعة غالباً في سدّة عتبة منزلها. لقبها ذاك، كان من واردات أصلها، الصالحانيّ، ولسببٍ لغويّ، تحديداً ؛ هيَ الغريبة، المتفرّدة زمنئذٍ برفض تعلم لسان بعلها، الكرديّ! فيا quot; ريما quot;، الطيبة القلب، ما لكِ وتلكَ الجارة، المنكوبة أصلاً بقدَر الثكل، الدائب، كما وبصحبة زوج ٍ مقتر، قميءٍ؟
ـ quot; نصف أطفال الحارة، ماتوا بشرّ عينها وحسدها quot;
تعيدُ تأكيدَ يقينها، الراسخ، عميدة ُ عائلتنا. موت quot; شيرين quot;، المفاجيء، شاءَ على ما يبدو أن يوزَنَ به يقينُ جدتنا، ذاك. ما إعترى العائلة، على خلفيّة وفاة إبنتها، من منعطف لمصائر أفرادها، لم يكتمل في واقع الأمر إلا مع مستقرّ المولود، الجديد. هكذا إقترحت جدتي، ما أن ولجتُ العامَ الثاني من عمري، أن يتمّ quot; تمويهي quot; بلباس البنات، إستيفاءً لحقّ العين الزرقاء، الكائدة ؛ إقتراحٌ، ترددت الأمّ أمامه، بما كان من تجربتها مع مثيله: كانت quot; ريما quot; في الأسبوع الذي شهد ولادتي، قد لاحظت أنّ قشرة رأسي مدهنة أكثر من المعتاد، وطلبت من إبنتها أن تجلبني إليها في الحمّام. في صباح اليوم التالي، على الأثر، رفعت والدتي المنديل عن رأسي كيما تعاين تأثير المرهم، الخاص، المستحضر وفق علوم الجدّة: quot; ما هذا، ربّاه!؟ quot;، ندّت عنها مصحوبة بصرخة ذعر. يبدو أنّ مفعول المرهم كان من النجاعة، أنه لم يُبق شعرة واحدة في رأسي الصغير. نما الشعرُ، ثانية، أغزر من ذي قبل بطبيعة الحال. إلا أنّ إقتراح الجدّة، الجديد، لم يمرّ بسهولة هذه المرّة.

للحكاية بقية..

دلور ميقري

[email protected]