في عمر 46 عاما.. أشعر بفجيعة الزمن، ووحشية الأقدار التي أفترست أيامي، وقتلت أحلامي التي تنوح بالبكاء والحسرة على خيبتها، فأي عذاب يعيشه المرء في جحيم الحرمان؟!

كل يوم أتعذب في صياغة حياتي مجددا على شكل فصول من احلام اليقظة، وأخدع نفسي بمحاولة الهرب من الواقع.. فأذا بي أقع في فخ صدمة الاحباط والخيبة وفوات الأوان، ويتحول الحلم من أداة للتعويض الى سوط وحشي يجلدني بسياط الهلع من تقدم الزمن وتسارع ايام العمر نحو النهاية!

دائما اعود بحياتي الى ايام الطفولة، واحلم انني اعيش في داخل مدينة ساحلية قديمة، وفي بيت يقع على الشاطيء البحر تبتل قدمي بمياهه، واتأمل مراكبه الراحله صوب آفاق العالم، ولعل أحد أسباب أنبجاس هذه الأطياف هو التأثر المبكر برواية: ((زوربا ) التي قرأتها قبل حوالي 29 عاما حينما كنت في عمر 17 سنة.. وهمت عشقا بأجوائها وعوالم جزيرة كريت التي تدور معظم احداثها هناك!


مدينتي المفضلة التي أرسمها في مخيلتي.. هي مدينة قديمة تتكون من الازقة الضيقة والبيوت العتيقة الخشبية والجدران العارية من الاصباغ، التي تنتشر فيها الخانات القديمة والحمامات والاسواق الشعبية المزدحمة.

اعود الى عمر 20 سنة واتصور نفسي نجحت في الهرب من العراق الى لندن.. لماذا لندن بالذات؟.. لانها المدينة التي قرأت عنها في الادب وكتب السير الذاتية، وعشقتها بفضل كتابات الكاتب الوجودي (( كولن ولسون )) عنها، وعن رحابتها في استيعاب تمرد الانسان ورفضه للحياة التقليدية، ففي لندن حيثما ذهبت تجد ان المكان ينطق بالدلالة والمعنى والتاريخ، ويرحب بك ويفتح ذراعاها لجنونك.

هل تتطابق صورة مدينتي المتخيلة مع صورة لندن؟.. الى حد كبير بأستثناء بعض الفروق البسيطة لأن مخيلتي متأثرة بالمدينة التركية التي تشبه مدينتي كربلاء التي ولدت فيها ونظرا لإستمرار الاستعمار العثماني للعراق 400 سنة فأن الطابع العمراني للمدن العراقية يتطابق تماما مع المدن التركية.

فحينما أمر بالأزقة القديمة الضيقة تعتريني رغبة الإلتصاق بالجدران العتيقة والاجهاش بالبكاء... لاأعرف لماذا تحرك في نفسي الازقة القديمة كل هذا الحنين، وهذه المشاعر الحزينة الغامضة؟!

كثيرا ما شغلني هذا العشق للمدن التاريخية القديمة، وبحثت عن السر الذي يفسر لي سبب هذا الحب الكبير.. ولم أقتنع بكافة التفسيرات ماعدا تفسير واحد كان هو الأقرب للاقناع تقدمه عقيدة تناسخ الارواح التي تؤكد ان ارواحنا سبق لها الانتقال عبر الازمنة الى بلدان ومدن مختلفة، وان الأماكن التي نزورها أول مرة ونشعر كأننا نعرفها.. هذا الشعور الغامض هو تعبير عن حنين الروح الى أماكن سبق لها العيش فيها في زمن ما.

فأي حنين خرافي يشعل في الروح كل هذا الحزن والنوح على ذكريات وعوالم عشناها في مكان ما؟!


ياإلهي لم أعش حياتي!


أنا خائف ومذعور من مرض السكر الذي أفترس حياتي بغتة، ومرعوب من الموت، ومابعد الموت!!

خضير طاهر

[email protected]