أستغربُ لماذا يهلل العرب والمسلمون لقدوم شهر رمضان كل عام رغم اختلافهم الأزلي في توقيت بدئه ونهايته، وعدم اتفاقهم وتوحدهم على الكثير من القضايا الفقهية التي يدلو كل منهم بدلوه الخاص بها؟ وما هو سر كل هذا الضغط النفسي والمادي الهائل الذي يكابدونه مع بدء الشهر، ويخصون مجيئه مثلاً، بسلسلة طويلة من الطقوس التي أصبحت متلازمة ومترافقة معه، ولا تحل عنه، كإقحام حياتنا، مثلاً، بحزمة مملة من المسلسلات العربية المتواضعة فكراً ومضموناً لإلهائه والترويح عنه ريثما يحل موعد الانقضاض على سفرة الطعام، وظهور أهل العمامات على الشاشات بخطابهم الغيبي المتخشب ليخدروا به الناس ويمنعونهم عن العمل والبذل والعطاء، باعتبار أن الجنة مضمونة لهم وأبوابها تنتظر قدوم قوافل quot;النشامىquot; وquot;الجدعانquot;، من العرب والمسلمين، لتسيطر بعدها حالة من الكسل والبطالة والعزوف عن العمل، واحتقار قيم الإنتاج، وتسود حالة من الهدوء والسكينة وحظر التجول والأحكام العرفية، ويتحول نهار الكثيرين إلى ليل، وتهدر مليارات ساعات العمل في طول البلاد العربية والإسلامية احتفاء بالشهر الفضيل، فيما ينكب quot;اليهود والكفار والصليبيونquot; والملاحدة الملاعين الخبثاء على العمل بجد واجتهاد كالمعتاد وينجزون فيه عشرات آلاف المشاريع والأعمال، وهذا هو ربما سر الفجوة الحضارية الكبيرة، والهوة الرقمية العميقة التي تفصل العرب والمسلمين عن الآخرين، والتي لن يمكن تعويضها لاحقاً، ومهما أدوا من خشوع وعبادات، فمادة الحياة الأساسية هي الوقت الثمين.
ولسنا هنا في وارد تناول ركن الصيام من جانبه الديني والعقدي والإيماني، فهذا ليس لنا به شأن، وكلا وحاشا لله. ولكن، ومن جهة أخرى، وهي الأهم، فلا يعرف، في الحقيقة، السبب لهذه الاحتفالية وتشجيع الناس على الصيام، والناس صائمون quot;خلقةquot;، وأصلاً عن الكثير من ضروريات وأساسيات الحياة، فالمجاعات، والفقر، وشح المياه، والقلة، والإملاق، وتخلف الزراعة، وانعدام الإنتاج، والتقنين المستمر، وفشل الخطط التنموية، وانتظار الهبات والمساعدات والقمح والرز والطحين من حفدة القردة والخنازير والعيش الطفيلي على معونات ومنتجات الصليبيين والكفار تجتاح العالم الإسلامي من أقصاه لأقصاه، وبؤر التجويع والإفقار تمتد، وبحمد الله وفضله، من طنجة إلى جاكرتا مهد الخلافة وأرض المقدسات. أليست هذه أشكالاً أخرى من الصيام والفطام والامتناع الطبيعي عن الطيبات الموجودة في الحياة؟ إن الدعوة للصيام يوحي وكأن التخمة والنعم تتهاطل على ديار العرب والمسلمين كما تتهاطل الأمطار، وكأن البحبوحات المالية و الاقتصادية والوفرة الغذائية باتت تعمي قلوب الناس من الكثرة وأن التقنين في كل شيء ليس من صفات هذه المجتمعات التي تتحكم فيها ترسانات القهر والتجويع والاستبداد؟
لم يعد الطعام والشراب وحدهما من ضروريات الحياة الوحيدة، وضمان البقاء، فهناك، اليوم، الكثير من أساسيات الحياة الأخرى اللازمة لحياة الإنسان الحرة والكريمة والأهم بكثير، أحياناً، من الطعام والشراب، وتفتقدها، في ذات الآن، معظم الدول العربية والإسلامية وتصوم عنها منذ بداية التاريخ وحتى الآن، وهي التمتع بطيبات الكرامة والعيش الرغيد الهنيء والشعور بالأمان والاطمئنان في بلاد يسودها العدل، وقيم المواطنة، والمساواة بين الناس وبدونها لا يمكن تحقيق آدمية وكرامة الإنسان، التي لا يعني الصوم بدونها شيئاً على الإطلاق. فهل يستقيم صوم مع ذل، ومهانة، وغصة في القلوب وكـَمّ مرعب من الألم والحسرات والمعاناة؟
ماذا نسمي الصوم الأزلي والفطري العام والمطبق عن الفرح والسرور والتفاؤل في الحياة والابتسام وسيادة العبوس والتكشيرات؟ وماذا عن الصوم المزمن عن تطبيق الحريات واحترام حقوق الإنسان؟ وماذا عن الصوم الكاسح والامتناع الكلي عن تطبيق القوانين واخترام الحريات وخضوضيات الإنسان؟ ولـِمَ تصوم كل تلك الغالبيات المهمشة عن المشاركة في دورها في صنع القرار في بلادها وتمتنع عن تذوق ممارسة دورها الفعال في الحياة؟ فهل quot;تذوقquot; أحد من هؤلاء البؤساء، مرة، طعم الحرية والكرامة وحرية التعبير والحركة والقرار في بلاد الأعراب؟ وهل quot;أكلquot; يوماً من خيرات بلاده ونال نصيبه من ثروات بلاده دون منة وتقريع ودوس رقاب؟ ومن quot;شبعquot;، ولوهلة عابرة في حياته كلها، احتراماً وتقديراً في بلاد العرب والإسلام؟ ومن quot;لحسquot; مجرد quot;لحسةquot; صغيرة، ولو على الماشي من شعور بسيط بالمواطنة والانتماء؟ ومتى يصوم فعلاً أهل العمامات عن بث الكراهية والبغضاء ويكفون عن تأجيج مشاعر الحقد والطائفية بين البسطاء وتغذية حملات التكفير والإفتاء؟
وهل نحن بحاجة بعد كل هذا الجوع الأبدي والحرمان وquot;الشحتفةquot;، والتعتير والتشحير المزمن، وفقدان أبسط متطلبات العيش الكريم لأي نوع من الصيام؟ وهل جرب أي من العرب والمسلمين أن يفطر يوماً ويتمتع بمبادئ العدل والمحبة والمساواة والكرامة والأخوة الإنسانيةوحقوق الإنسان والانتخابات الحرة والمباشرة بدل الإفطار على التمر والتبولة والفجل البلدي وأنواع الشوربات؟ تلك المتع والملذات والطيبات السياسية التي لم نعرفها ولم نجربها يوما ولا نعرف طعمها الحلو على الإطلاق، والتي حـُرمت دائماً، وكانت ممنوعة ومحظرة، تماماً، في بلاد العرب والإسلام؟
أشهد بالله، أننا، جميعاً، صائمون، quot;خلقةquot; وعلى السبحانية، في دنيا العروبة والإسلام، وأيما صيام، عن كل هذه quot;الرذائلquot;، والموبقات، والمحرمات الدنيوية، والطيبات السياسية التي ابتدعها الصليبيون والكفار، ومنذ فجر الزمان، ونحن منها براء، وكل الحمد والشكر لله.
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات