كلما رأيت quot;آلة زعق بشريةquot; في القنوات الفضائية -من جنس الكائنات التي تدلع لسانها على طاولة البرنامج وتحرّك بلعومها بعبارات وشعارات- حينما أرى ذلك الحماس الصاعق أشعر بالقرف من هذا المشهد البائس، ليست المشكلة فقط في حالة quot;الصفير والصراخ والشهيقquot; التي يصرفها عبّاد الشعارات وأنصار القضايا وسدنة الدفاع الوهمي عن الشعارات الوهمية بنظريات وحجج وهمية، وإنما بسبب هذا الظهور المليء بالتبجح الفكري والسذاجة الذاتية، حينما يطالب بعض هؤلاء الذين يمغطون ألسنتهم من الساعة التاسعة ليلاً حتى تطردهم القنوات من استديوهاتها مع بزوغ الفجر كل ذلك الضجيج ينطلق من دعوى quot;الإصلاحquot;، وبرغم ضبابية معنى quot;الإصلاحquot; ذلك أن حتى كلمة quot;إصلاحquot; تعرضت للاختراق، فباتت تعني ببساطة أن quot;تتبع مشروعيquot; وإن لم تتبعه فأنت فاسد تحتاج إلى إصلاح شامل وكامل. هذا ما تنضح به الفضائيات وحركات الإصلاح ومزاعم التصحيح والتغيير وبعض الكتاب البسطاء ضحايا القراءات العمياء والثناء الكاذب.


حينما سألتُ مرة أحد الذين يدعون أنهم من الإصلاحيين عن جدوى أحد مشاريعهم التي يطالبون بها لم يكن يعرف عن مشروعه إلا الفتات، فهو مجرد ترس داخل مكينة لا يفقه شيئاً عن المشروع الذي يطالب به والذي يدعي أنه quot;سر نهضة الأمةquot; والطريق الوحيد للخروج من النفق، ولا عجب إن وصفك أحدهم بعد أن تختلف معه بانك quot;من أذناب الحكومةquot; ذلك أن مشروعاتهم الإصلاحية المزعومة تحولت إلى quot;حكومات أخرىquot; تقصي من يختلف معها وتؤوي من ينشدّ إليها ويواليها ويسمع لمشاريعهم ويطيع. تلك هي صورة أولى وكبرى لتوجهات الإصلاح عربياً.


يكشفها نموذج تعاملهم مع الديمقراطية مثلاً، صحيح أنها النظام الأقل سوءاً في العالم، ولكن يتطلب ترسيخها بنية أولية ولعل هذا ما يجعل بعض الفلاسفة يتعاملون مع quot;الديمقراطيةquot; بوصفها (إشكالية) لأنها تطرح بقدر ما تطرح بعض الحلول فإنها باستمرار تنتج مشاكلها، يطرح (يورغن هابرماس) في بحثه (التشكيلة-مابعد-القومية ومستقبل الديمقراطية) على أنها quot;تنتج إشكالاتهاquot;، فهو يقول: (إن المبادئ الأساسية للديمقراطية الليبرالية وهي الحكم الذاتي والشعب والموافقة والتمثيل والسيادة الشعبية- صارت بوضوح ndash;إشكاليات) وكونها quot;إشكاليةquot; لا يعني أن نتعامل معها كشعار، وإنما أن نستوعب تاريخياً إشكالياتنا العربية مع هذه العبارة، خاصةً وأن القمع والاستبداد استطاع أن يوظّف الديمقراطية توظيفاً سيئاً بشكل يخدم استبداده، بينما دعاة الإصلاح ومنذ دعوات الإصلاح الأولى quot;للديمقراطيةquot; وهم لا يفرقون بين كون الديمقراطية quot;نتيجةquot; يطبخها المجتمع بنار وعيه ونشاطه التصحيحي الذاتي، وبين كونها مجرد quot;سببquot; أو عصى موسى الذي يأتي بكل الحلول، فالسطحية حدت بهم إلى التعامل مع الديمقراطية كـوسيلة للتقدم.


إن الديمقراطية بشكل أولي نتيجة أولى لسخونة المجتمع وتلهفه وتشوفه للتغيير، فالديمقراطيات تأتي بعد ردح ثقافي طويل، ولا تأتي بانقلابات عسكرية، أو أحلام فردية، بكل أسف فإن هذا مالم نخبره منذ البداية.


ففي فترة مضت كانت الثورات المزعومة والانقلابات العسكرية تشبه لعب الصبيان ومع ذلك كلما استلمت الأحزاب التقدمية الحكم زاد الاستبداد والقمع، وتبقى الشعوب أسيرة لذاتها وتبقى المجتمعات أسيرة لأدوائها وأفكارها، لم تكن العصيّ يوماً ولا البنادق الحكومية لتصنع شعباً ديمقراطياً وإنما الشعوب التي تصل إلى حالة من التشوّف للديمقراطية هي التي تصل إلى هذا المستوى من النمو السياسي، وما يحصل من قبل الإصلاحيين اليوم أنهم انشغلوا بشعارات تافهة وهتافات سياسية تحقق لهم شهرة واسعة ويصنعون من أنفسهم أبطالاً ولكنهم لا يمسون العصب المعطوب أبداً ولا يقاربونه إطلاقاً.


حينما نقرأ الإصلاح قراءة شاملة ظاهرة وباطنة، نجد محاولات بعض الإصلاحيين كانت تنصب على quot;تأمين أوضاعهم الاقتصاديةquot; أو quot;تصحيح مواقعهم إزاء التهميش الذي تمارسه ضدهم الحكوماتquot; هذا ما نشاهده في بعض quot;المذكراتquot; حيث يكرّ ويفرّ بعضهم ويسجن ثم بعد أن يخرج وتتوطد علاقته بحكومته يبدأ في إلقاء المحاضرات عن quot;التراجعquot; وعن quot;طيش الشبابquot; وهي حالة تتكرر دائماً في أدبيات أكثر المحاولات الإصلاحية في العالم العربي، هذا فضلاً عن quot;المنةquot; التي يمارسها بعض الإصلاحيين فحينما يسجن يمنّ على العالم ويدعي أنه سجن من أجلهم وأنه قدم نفسه في سبيل تأمين لقمة عيشهم، بينما لم يؤيد مشروعه إلا السذج أو من لم يفهمه أو quot;الثوار بالفطرةquot; الذين يطمحون إلى تأييد أي نعرة إصلاحية مزعومة مهما كانت شاذة عن الواقع ومنفلتة عنه.


إن الإشكاليات التي يجب أن نتساءل حولها أجدى من quot;نثر الحلولquot; الذي نشاهده بكرة وعشياً في الإعلام وفي البرامج الإصلاحية التصحيحية التي تطرح من دون وعي أو تدوين، تجد بعضهم يركض وراء الشعار وفوق الشعار ومن أجل الشعار من دون أن يدرك فحواه ومعناه، من دون حتى أن يقرأ ويقارن التجربة quot;العربيةquot; مع بعض الشعارات، إن التجربة العربية مع quot;مزاعم الإصلاحquot; من قبل القوميين والإسلاميين والعلمانيين والليبراليين حالياً من المهم أن تكون موضع تدوين، حتى يتمكن بعض الذين يقومون بتكرير الفشل باسم الدعوة للإصلاح من التوقف عن هذا المهرجان الممل، وأن يعرفوا أن الفساد الكامل يحرّض على الإصلاح أضعاف ما يحرّض عليه الإصلاح quot;الناقصquot; الذي يجرّ دائماً إلى الإحباط الدائم واليأس المضاعف.

فهد الشقيران
كاتب سعودي
[email protected]