التجديد في الدين، هو جهد فكري يخوضه الإنسان المثقف لطرح معرفة جديدة ومفهوم جديد حول الدين. إنه بمثابة مدرسة فكرية ينتمي إليها باحث يسعى لطرح رؤى دينية متصالحة مع الحداثة، مع التأكيد على أهمية العلاقة الروحية الإيمانية بالله. فالباحث هنا لا ينتمي إلى المدرسة الفقهية التقليدية المحافظة، التي هي في الواقع مدرسة تاريخية ماضوية ليست على وفاق مع الحداثة وتسعى لتركيب الماضي على الحاضر أو القديم على الجديد. فالمنتمي إلى مدرسة التجديد هو إنسان مثقف وحداثي، وفي الوقت نفسه غير منقطع عن التدين. أي أنه ينتمي إلى مدرسة فكرية لها علاقة طبيعية واضحة بل ومميزة مع الحداثة ومع العقلانية، ويسعى أيضا إلى علاقة إيمانية خاصة مع الباري جل وعلا استنادا إلى التجارب الروحية التي خاضها الأنبياء في حياتهم. كذلك هو يرفض أن يضحي بجانب على حساب الجانب الآخر. فمثلما الإيمان والتديّن لهما أهمية في الحياة، فإن الجانبين الحداثي والعقلاني لا يقلان أهمية بالنسبة إليه عن الجانب الأول. هو شخص يعتقد أنه يمكن في زماننا الحديث إنتاج فهم (جديد) لما جاء به الوحي الإلهي (القديم)، وأن ذلك الفهم (الكلام) بمثابة نبع جار باستمرار وغير قابل للانتهاء أو التوقف، يغذي الإيمان ويتعايش مع الحداثة.


إذن نستطيع أن نطلق على هذا الإنسان وصف المثقف الديني. فهو مثقف، لأنه يعتمد في تفكيره على العقل المستقل عن الوحي. أما الديني، فلأنه يهتم بعلاقته الروحية مع الله، لكن إيمانه نابع من إرادة حرة وقائم على البحث والتحقيق باستمرار. فتديّن المثقف لا يستند إلى التقليد والتلقين، ولا يخضع لضغوط الإرث الاجتماعي، ولا يقوم على الجبر أو الإكراه، ولا على العاطفة، أو العادات والتقاليد، ولا على المصلحة الدنيوية، أو الخوف من السلطات الاجتماعية كالأسرة والأصدقاء وجماعات الضغط الدينية والسياسية. هو يتبنى حياة تتوازن فيها العقلانية والتجربة الإيمانية الروحية. إذن هو يجمع العقلانية والإيمان معا. إنه يعيش في إطار هوية تتسم بالواقعية وبالتغيير والتجديد باستمرار، وهي عناصر مهمة في دعم العقلانية وفي عملية البحث عن الحقيقة الدينية وفي محاربة الخرافات الدينية (وغير الدينية) وكذلك في تثبيت الإيمان.
إن مفاهيم كالارتداد، والبدعة، والكافر والمؤمن، لا يمكن أن تجد لها طريقا إلى قاموس المثقف الديني. هي مفاهيم تتبناها السلطات السياسية والدينية لحاجة تتعلق بأمور السلطة والسيطرة والوصاية. هي كذلك مفاهيم تعيش في كنف الهوية الجماعية للمتدينين التقليديين أنصار الفقه التقليدي المحافظ الذين ما لبث الكثير منهم أن وظفوا الدين لتحقيق مصالحهم الدنيوية. وهذه النوعية من المتدينين هي الفئة التي استند تدينها إلى الجبر لا الإرادة والاختيار، إلى الإرث الاجتماعي وسلطاته، إلى العادات والتقاليد، همّها هويتها الدينية وظاهر الدين وقشره ومصالحها، لا الإيمان وأثره الاجتماعي على أخلاق المجتمع.


وبوصفه مؤسسا للمعرفة الدينية وصاحب تجارب إيمانية روحية، فإن المثقف الديني، من خلال انتمائه إلى مدرسة التجديد في الدين، لا يمكن أن يطيق الأيديولوجيا. فمدرسته التي تؤسس للبحث العلمي عن المعرفة الدينية وتشجع التجارب الإيمانية الروحية، لا تستطيع أن تتعايش مع المدرسة المؤدلجة، وذلك بسبب سلوك الأخيرة وسعيها لسد باب البحث عن الحقيقة المتعارضة مع فهمها وتفسيرها والمتضاربة مع مصالحها وسلطاتها الدنيوية. ففي حين أن سعي المثقف الديني من خلال مدرسة التجديد في الدين ينصب على فتح الآفاق أمام مختلف الباحثين عن الحقيقة الدينية وغير الدينية، نجد أن جهد المؤدلج ومدرسة الأيديولوجيا يتركز على تحديد فهم الحقيقة، وإغلاق بابها عند الحد الذي هي وصلت إليه، والتضييق على من يسعى لفك أغلال فهمها للخروج من أسرها إلى ساحة حرية البحث العلمي والمعرفي.


إن مدرسة المثقفين المجددين للفهم الديني تعارض مسعى الفقهاء لاستخراج فتاوى أو أحكام فقهية مستندة إلى quot;الحيلquot; الشرعية كجزء من عملية التجديد في الفقه والدين. فالعديد من الفقهاء وُصفوا بأنهم quot;مجددونquot; لا لشيء إلاّ لأنهم عارضوا تنفيذ بعض الأحكام والحدود الشرعية، كحد قطع يد السارق أو رجم الزاني والزانية، وسعوا لوقفها أو إلغائها بذريعة أن ذلك يتوافق مع بعض المفاهيم الحديثة ويمنع quot;إهانةquot; الدين ويمثل تجديدا في الدين. لكن مهما حققت جهود الفقهاء من نتائج، فإنهم لا يمكن أن يوصفوا بالمجددين، لأنهم لم يسعوا للاجتهاد في أصول الدين، بل في فروعه، وسعوا لتأجيل تنفيذ بعض الأحكام والحدود واستفادوا في سبيل ذلك من quot;الحيلquot; لتحقيق مصلحة معينة.


فالتجديد في الدين لا يتم من أجل مصلحة، بل من أجل ممارسة التغيير. لهذا عليه أن يطال الأصول: علم الكلام وعلم الأخلاق، وأن تتم إعادة النظر في مفاهيم أساسية في الدين كالتوحيد والنبوة والمعاد والوحي، وصولا إلى التعايش مع الحداثة ومفاهيمها. فإلغاء أو وقف حد أو حكم شرعي ليس سوى اجتهاد في فروع الدين من أجل أن يتماشى ذلك مع شكل الحياة الجديدة، في حين أن المطلوب هو تعديل الأساس الذي تقف عليه تلك الفروع. فمثلا لو تغير الفهم الديني القديم المتعلق بحقوق الباري مقارنة بحقوق الإنسان، بحيث يصبح احترام حقوق الإنسان هو المؤسس لاحترام حقوق الله عز وجل، إذ نجد أن العكس هو السائد حاليا، حيث يتم انتهاك حقوق الإنسان بذريعة الدفاع عن حقوق الله، نكون قد خطونا خطوة مهمة في قضية التعايش مع المفهوم الحديث لحقوق الإنسان، ولما لجأ الفقهاء إلى quot;الحيلquot; الشرعية لإثبات أن الفقه لا يتعارض مع مفاهيم الحداثة.


إن الفقهاء الذين يصفون أنفسهم بالمجددين، أو بالإصلاحيين، يعتقدون خطأ أن الرابط الوحيد الذي يربط الحداثة بالدين الإسلامي هو الرابط الفقهي، لذا يسعون لملء هذا المقعد الشاغر من خلال quot;الحيلquot; الفقهية، مستندين إلى مفاهيم مثل quot;لا حرجquot; وquot;لا ضررquot;، في استعراض ممل لإثبات قدرتهم على العيش في ظل الحداثة. فإذا كان هناك مسعى لتغيير وتجديد الفقه فيجب أن يسبقه مسعى تغيير وتطوير فهمنا للأسس التي يقف عليها هذا الفقه..

فاخر السلطان
[email protected]