ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.. الإسراء 85... من أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع التفسير في العقود الأخيرة هي أن كثيراً من المحدثين يخالج إعتقادهم أن الأولين لم يتركوا للآخرين شيئاً وهذا من العوامل التي يجانبها الإتزان والتي يتمسك بها من يتعرض إلى تفسير كتاب الله وسيمر عليك إنشاء الله في آخر المقال المتضمن لهذا البحث... والآن أريد أن أبدأ الحديث عن الروح : الذي عليه كثير من المقسرين : إن المشركين بتعليم من أصحاب الكتاب وجهوا بعض الأسئله إلى النبي ( ص ) وكان من بينها السؤال الذي نصت عليه الآيه التي في صدر المقال.. وللمفسرين في الروح آراءً كثيرة ومتشعبة وحسب إختلافاتهم وطرقهم في التفسير وإليك بعض آرائهم... أولاً : قال بعضهم يذكر و يؤنث وهو ما يقوم به الإدراك والشعور ومخلوق على هيئة لا مثيل لها في عالم الوجود.

ثانياً : هو خلق عظيم روحاني أعظم من الملك ذكره الزمخشري في الكشاف ناسبه إلى قيل.

ثالثاً : قال الفخر الرازي وللمفسرين في الروح المذكوره أقوال أظهرها أن المراد منه الروح الذي هو سبب الحياة.

رابعاً : قال القرطبي في الجامع لإحكام القرآن قال أهل النظر إنما سألوه عن كيفية الروح ومسلكه في بدن الإنسان وكيفية إمتزاجه بالجسم وإتصال الحياة به وهذا شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل...

خامساً : قال بن كثير عن علي بن أبي طالب أنه قال في قوله ( ويسألونك عن الروح ) قال هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق الله من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة يوم القيامة وهذا أمر عجيب والله أعلم. إنتهى.. أقول : وروي هذا عن علي عليه السلام.. عند غيره من المفسرين..

سادساً : قال الشوكاني في فتح القدير نقلاً عن الفراء : الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله سبحانه به أحداً من خلقه ولم يعط علمه أحداً من عباده فقال الروح من أمر ربي أي إنكم لا تعلمونه.

سابعاً :
قال البغوي في معالم التنزيل : قيل الروح هو القرآن وقيل المراد عيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته ومعناه إنه لا كما يقول اليهود أو النصارى ثم قال وقال قوم هو الروح المركب في الخلق الذي يحيا به الإنسان وهو الأصح.

ثامناً : قال الثعلبي في الكشف والبيان : إختلفوا في هذا الروح المسؤول عنه ماهو فقال الحسن وقتادة هو جبرئيل ثم قال قال قتادة وكان بن عباس يكتمه. ثم روى ما تقدم عن علي...

تاسعاً : قال الطبرسي في مجمع البيان : إختلف العلماء في ماهية الروح فقيل إنه جسم رقيق هوائي متردد في مخارق الحيوان وهو مذهب أكثر المتكلمين واختاره المرتضى وقيل جسم هوائي على بنية حيوانية في كل جزء منه حياة..

عاشراً : قال الطوسي في التبيان : وقيل أيضاً إنهم لم يجابوا عن الروح لأن المصلحة إقتضت أن يحالوا على ما في عقولهم من الدلالة عليه لما في ذلك من الرياضة على استخراج الفائدة....... وقد تبين بما مر عليك إن أقوال القدامة من المفسرين تكاد تكون متشابهة الهم إلا ما نسبه الطوسي إلى قيل لأنه يفتح المجال للعقل والتدبر في أمر الروح والآن لنستعرض ما ورد على لسان المحدثين الذين هم أيضاً لهم رأي آخر في الروح..

قال طنطاوي في الوسيط : قال بعض العلماء وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ماهيته وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ويردعهم أعظم ردع وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتسع له المقام وغالبه بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين أو دنيا. إنتهى... وقال السيد الطباطبائي في الميزان بعد استعراض الآيات المتفرقة والتي تذكر الروح بطرق مختلفة قال : فقد تبين بما قدمناه على طوله معنى قوله تعالى ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) إن السؤال عن حقيقة مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه وإن الجواب مشتمل على بيان حقيقة الروح وإنه من سنخ الأمر وأما قوله وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.. أي ما عندكم من العلم بالروح الذي أتاكم الله ذلك قليل فإن له موقعاً من الوجود وخواص وآثاراً في الكون عجيبة أنتم عنها في حجاب.. وأجيب عنه في من وحي القرآن بقوله : وقد حاول صاحب الميزان أن يجعل الجواب ( قل الروح من أمر ربي ) تفسيراً لكلمة الروح قال فقد بان بما مر هو كلمة الإيجاد وهو فعله تعالى الخاص به الذي لا يتوسط فيه الأسباب الكونية بتأثيراتها التدريجية وهو الوجود الأرفع من نشأة المادة وظرف الزمان وغن الروح بحسب وجوده من سنخ الأمر من الملكوت..

ولكن المتبادر من الجواب إن الله لم يرد أن يعرفهم طبيعتها باعتبارها من أمره لأن ذلك لم يوضح شيء عندهم في ما هو حقيقة المعنى لأن كلمة الإيجاد تمثل مصدر الوجود لا حقيقته كما إنه من الأمور المعروفة لديهم في ما يعتقدونه من تعلق الإرادة الإلهية بوجود الأشياء بشكل مباشر ولهذا فأننا نستقرب أن يكون الجواب وارداً لبيان أنها من الأمور التي إستأثر الله بها مما لا يستطيعون الإحاطة به لأنه ليس من الأمور التي تقع في دائرة الحس ليملكوا الوسائل إلى معرفتها لأن التعرف على الأشياء لايتم إلا بالوسائل التي يملكها الإنسان في فكره ووجدانه وعلى هذا الأساس تنسجم الفقرة التالية مع صدرها ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) كإشارة إلى إنهم لا يملكون الكثير من العلم لأن مصادر المعرفة محدودة لديهم في ما يتصورونه أو يتعرفون عليه من خلال الحس والله أعلم. إنتهى....

أقول : المورد لا يخصص الوارد ومن الصعب أن نجعل الجواب عن الروح محدوداً في سبب النزول أو ما يستوعب لديهم وهم في ذلك الزمن من خلال أفكارهم.. نعم إذا كان الكلام ليس في
القرآن فهذا ممكن ولكن القرآن لا يختصر الإجابة عليهم فقط بالأمر الذي يعلمه السائل وإلا كان ذلك يجري في الأنفال التي قال تعالى فيها ( ويسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول.... الآية ) الأنفال 1.....

والنكتة هي في تكرار الأنفال فإن الأنفال المسؤل عنها هي ليست الأنفال التي جاء الجواب عنها وإن كان متضمن لها فيكون اللام الأول للعهد والثاني ( الذي في كلمة الأنفال الثانية ) للإستغراق أي إنهم سألوا عن الغنائم وكيفية تقسيمها وكأن الجواب جاء على طريقتنا في التعبير إستغلالاً للفرصة أي إنه يقول ليس فقط الغنائم التي سألتم عنها إنما كل نفل هو عائد لله والرسول والنفل هو الزياده على الأصل كما في قوله ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا ) الإسراء 79... وقوله تعالى ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ) الأنبياء 72... وكما قال لبيد... إن تقوى ربنا خير نفل......... وبإذن الله ريثي وعجل.. إذاً ماجرى في الأنفال يجري في الروح فتكون الروح الثانية التي هي الجواب متضمنة للأولى ومشيرة إلى جميع مراحل الروح الواردة في كلامه تعالى كقوله ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن لبهم من كل أمر ) القدر 4 وقوله ( يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون ) النبأ 38.. وقوله تعالى ( ينزل المالئكة بالروح من أمره ) النحل 2 وكذلك أيضاً ( يلقي الروح من أمره ) غافر 15.. وقوله ( إذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس ) المائدة 110.. وقوله ( فأرسلنا إليها روحنا ) مريم 17..وكذلك قوله ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ) الشورى 52.. ولو راجعت الآيات المذكورة لوجدت الروح لا ينفك عن الأمر الذي لا تتوسط به الأسباب أي إنه الخلق بكلمة كن كما قال تعالى ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) يس 82.. وكما عرفه بقوله ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) القمر 50..

وكما فرق بينه وبين الخلق التدريجي بقوله ( ألا له الخلق والأمر ) الأعراف 54.. إذاً الجواب عن الروح إنها من سنخ هذا الأمر الذي مر عليك ( قل الروح من أمر ربي ) ثم قال ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) في ماهيته وحقيقته.. والله أعلم.... ترقبوا ( أضواء على فاتحة الكتاب ). .

عبد الله بدر إسكندر المالكي