حدثنا الصباح الجهني حيث قال:
بعد أنْ هـدَّتِ الزلازلُ أركانَ الطُّغيان، وتشتّت الخدم والخصيان، في كل مكان، صدّق الناس بحسن نيِّـة، وصفاء طـويَّة، خدعةَ التحرير، فرقصوا في الحرّ والزَّمْهَـرير، وبعد وقت قصير، بإشارة رمزية وغمزة خفيّة،عاد الأزلام من الباب الخلفيّة، فأخذ هؤلاء الأغراب من الأعراب، يملأون الصحف بالشتيمة والسِّـباب، آملين أن يجدوا الماءَ في السَّراب. فلا يزال في خيالهم البليد، البطلُ الصِّـنديد، والماضي التَّـليد، أنّ يعود، فتتـورَّدَ الخدود، وتهتـزّ النهـود، وتُطبِّـل الفهود، وترقص القرود حتى اليومَ الموعود.


ففي هذه الأيام العصيبة، ذات الأحداث الرهيبة، التي جاوز فيها الحوار كُـلَّ الأسوار، واشتـدَّ صراع الأفكار، وذاب الليل في النهار، وتفـرَّق السُّـمّار، وتـنازعت الأضداد، وتصاعدت الأحقاد، فضاع القـرّاءُ بين الضلال والرشاد. فاستغـلَّ بعضُـهم الأوضاعَ الحميدة، في حرية العقيدة، فراح يسعى بكُـلِّ حيلة، مُـتَّـخذاً كُلَّ وسيلة، لدسِّ السُّـمِّ في الدسم، دون شعـورٍ بالإثم والندم، لِمـا يُـصيب القرّاءَ من ألم. فلا لومَ على من فقدَ ما نال، مِنْ جاهٍ ومال، فأخذ يُرغي كالجمال، التي أثقلتـها الأحمال، ويعلّل النفسَ بالآمال، ففتح دكاناً سمّاه ثقافة وجمع غلمان الشعر والطرافة، فأغدق الهبات على من خوضوا في الموبقات وأكرمهم بالولائم والسفرات وجعلهم عبيده يقبلون يدَه وجِيـدَه، فلا يعصون له أمرا ولا يُذيعون له سرّا، ودول الجوار، تنثر على رأسه الدولار، فيطنطن كالصرصار،
quot; غيرُ بِدع ٍإذا ظُلِـمتَ بدهـرٍ *** رُزقَ الغَمْـرُ فيه حظاً عظيمـا*
فالهواءُ الصَّحيحُ يُدعى عليلاً *** واللديـغُ المُصابُ يُدعى سليماquot;
وفي أحد الأيام، وأنا مُـثقل بالأوهام، أردتُ أنْ أطّلعَ على أحد هذه الدكاكينْ، الممتَـدّة من فلسطين حتّى لندن وبرلين، فقادني الطريق إلى موطن النقيق، فقلت دعني أسمع هذه النغمات، لعلّها تَشفي من الصّدمات وتمحو آثار الكدمات، وتريحني من الحسرات وتفرّج الكُـرَب وتُـزيل الهمَّ والنَّصَب، فلقد أجهدني التفكير، وأتعبني التذكير بأمر مُنـكر ونكيـر، فالحياة لا تساوي شروى نقيـر، فدخلت البيت العتيق، فوجدت الرفيق، ووجهه يتلألأ كالعقيق، وهو يجأر بالغناء كالبعير، وبملأ الجو بالصَّفير، فانشرح خاطري وصفا ناظري وجال المرح في نفسي فنسيت بؤسي، فقلت يا صاحب النشرة الشاخرة، أهيَ حقاً ساخرة أم في عباب الغباء ماخرة وبالتافه من الكَلِـم زاخرة؟ فضحك كالبليد ورمقني ببصَرٍ من حديد، وقال إنها ناقدة، وفي الميوعة راقدة، وللنجوم راصدة، فإذا لم تصدِّق ما أقولْ، ولم تفهم الأصولْ، فإنَّ مصيركَ الذبول والأفولْ. فاعتذرتُ له بطيب الكلام، وأسبغت عليه آياتِ الثناء والاحترام، فطاب نفساً وصفا حسّاً، وقال ماذا تريد، أيها الطّارئ من بعيد ؟ قلتُ يا واهبَ العروش، هاك بعضَ القروش، وغنِّ لي بعضَ الموّال وارقصْ لي كالغزال، فلقد بلغ بي السأمْ، حتى طلبتُ العدمْ، فأنت ترى العراقْ، والدمَ المراقْ، والناسَ في شقاقْ. قال فخلع المداسْ وحكّ الراسْ ووقف كالنسناسْ، وقال سمعاً وطاعة، فأنا في معصمك كالسّاعة، هات البضاعة، ودعني أحوفْ في هذا الصّوفْ فانا إلى المال لَملهوفْ، يا لطيفْ، يا مانح الرّغيفْ، يا سيد العارفين والجاهلين. فقلت لقد زدتَـني طربا وأعجبتَـني حِقَـبا، أين كنت في الأيام الخوالي، ولماذا أنت من العقل خالي ؟ قال: فاستشاط غضبا وتوهج ناراً ولهبا، فربتّ على كتفيه وقبّلتُ ما بين وجنـتيْـه، وقلت يا صاحب الكواكبْ، والسائح في المشارق والمغاربْ، كيف تُقـنعُ البُعَـداءَ والأقاربْ، فيمنحونك الولائم والأسفار ليل نهار ؟ فضحك بملء شدقيه، وهطلت دموع الفرح من عينيه، حتى غاب عن الصواب، فأمسكتُ بكتفيه، ومن خوفي عليه، هززته هزّا وأشبعته لكزا، فأفاقْ، ونظر إليَّ بإشفاقْ وقال هاك جوابَ ما سألتَ يا صديقي لتعرف طريقي ؛ أرقصُ في كل حلبة، وأغنّي في كل جلبة، فيُـسَـرّ السادةُ النسورْ، وتشعّ أوجهُهم بالحبورْ، وعندها أهدر كالأسد الهصورْ: إذا لم تتبرّعوا، ولم تفهموا كلامي وتَعُـوا، فسأغلق في وجوهكم الأبواب، فتكونون في دنيا الخراب، ينعق عليكم البوم والغراب، فتنهال على رأسي الهِباتْ، فأقهقه حتّى المماتْ، أنا الروائيّ العجيبْ، ذو الفن الغريبْ، أنا أبو زيد الأسدي، ذو العمر اللّـُبَـدي**والكيد الأبدي! وطفق يغنّي

أجـيد رقصاً وهـزّا****قفزاً وغمزاً ورهزا
فصِرتُ في الدّهر لُغزا***بشَعـريَ الشيطاني


* الغَـمر (بفتح الغين) تعني الجاهل الذي لم يجرب الأمور. (البيتان لحسين الجزري الحلبي)
** لـُُبَـد : آخر نسور لقمان بن عاد عاش عمراً طويلاً. ويعني أيضاً (الكثير).

بهجت عباس