لعلي أشير إلى مسألة مهمة أرى أن الكثير من المؤرخين و المحللين الذين تناولوا بالدراسة تجربة توحيد كيان الدولة أهملوها.
و هي: أن تجربة التوحيد تضمنت في أحشائها و في صميم نسيجها الحي بذرة ملامح مستقبلها متمثله في مفردتي التأسيس و التحديث.
و هذا شئ يبدو إستثنائياً في التجارب التاريخية لإنشاء الدول.
فالسائد و المعهود هو أن يكون توحيد الكيانات المتشردمة و الكتل المتنافرة تجربة و ملحمة قائمة بذاتها و تبرز أمامنا عدة تجارب تاريخية على هذا، التجربة الألمانية على يدي بسمارك و التجربة الدستورية الأمريكية.


و يدلك على هذا القطع بين توحيد الكيانات الإجتماعية و إرساء أسس الدولة ثم تحديثها و دفعها إلى مصاف الدول الأكثر تقدماً تجربة المغول التتار التي قام فيها جنكيزخان بتوحيد هذه القبائل، و لكنه لم يقم بإرساء أسس دولة حديثة، و إنما إنطلقت جحافلهم مع هولاكو في أكبر غزوة تاريخية اعتمدت الحصان و السيف، و لكن ولأن الإمبراطورية كانت تفتقر إلى البعد الرسالي أو البعد الأيديولوجي اعتنق الغزاة و في المجتمعات التي قاموا بغزوها.


ثمة الكثير مما يمكن أن يقال حول هذا اتفاقاً و اختلافاً.
و لكن لا يسعنا سوى التأكيد بأن ملحمة توحيد كيان الدولة التي انطلقت فجر الخامس من شهر شوال عام 1319هـ الموافق 15 يناير 1902م حيث استطاع الملك عبدالعزيز، و الذي لم يتجاوز عمره آنداك 26 عاماً أن يستعيد مدينة الرياض واضعاً بذلك اللبنة الأولى لهذا الكيان الشامخ استطاع و منذ تلك اللحظة التاريخية أن يختصر مراحل تاريخيه عديدة، ليس نحو توحيد هذه المجتمعات و الكيانات المتناثرة فحسب، بل و أن يرسي أسس دولة كبيرة ثم يقوم بتحديثها و تنميتها واضعاً أقدامها في مضمار المنافسة السياسية الدولية لتكون لاعباً أساسياً و رئيسياً في تشكيلة الدول ذات التأثير الأقوى في الإتجاهات السياسية و الإقتصادية و الثقافية، لا في حدود المنطقة الإقليمية فحسب بل و في كامل محيط السياسة الدولية.
لا يسعنا سوى التأكيد بأن ملحمة التوحيد كانت مجرد quot;مقدمةquot; ndash; و أرجو أن نشدد على مقدمة هذه ndash; الأهداف كانت مختزلة داخل رحم لحظة التوحيد.


فلم يأت تأسيس الدولة و تحديثها كهدف ثان و إنما جاء كتداع تلقائي للتوحيد.
لا احسبنا في هذه اللحظة في حاجة لأن نسرد و نستعرض تفاصيل وقائع ملحمة التوحيد التي بدأت بتوحيد مناطق نجد في الفترة من 1320هـ إلى 1321هـ بتوحيد المناطق الواقعة جنوب الرياض بعد الإنتصار في بلدة الدلم قرب الخرج ثم الحريق و الحوطة و الأفلاج و وادي الدواسر.


و من ثم إلى منطقة الوشم و شقراء حيث واصل المؤسس زحفه صوب ثادق و منطقة سدير و المجمعة. وفي الفترة من 1321إلى 24 هـ استطاع الملك عبدالعزيز توحيد منطقة القصيم بعد مجموعة من المعارك في الفيضة و البكيرية و الشنانة و في المعركة الحاسمة في روضة مهنا في 18 صفر 1324هـ الموافق 14 أبريل 1906 م.


لا احسبنا في حاجة إلى سرد تفاصيل تلك الأيام المجيدة و التي توجت في 17جمادي الأولى 1351هـ بالمرسوم الملكي بتوحيد كل أجزاء الدولة السعودية الحديثة فتفاصيلها محفورة في ذاكرة التاريخ و مدونة في كتب بالتاريخ الحديث و المعاصرة كواحدة من أعظم الإنجازات التي تحسب للبطل المؤسس و الرجال الذين آمنوا بفكرته و بايعوه قائداً و إماماً لهم بإخلاص لإنجاز هذه المهمة التاريخية التي كانت تبدو أقرب إلى الحلم المستحيل في وجدان من تمتعوا بهذا الوعي التوحيدي.


و لكن و قبل أن نتناول دلالات هذه التجربة الملحمية و قبل أن نحاول قراءة مضامين الأسس التي قامت عليها الدولة الوليدة آنذاك دعونا نعود إلى الوراء قليلاً، و نسأل: كيف تسنى لتجربة التوحيد أن تحمل في رحمها كل هدا الزخم المستقبلي؟


لقد أطلت التفكير في هذا و لم أهتد إلا لإجابة واحدة و هي أن قائد هذه الملحمة إستطاع ndash; و بطريقة عفوية وشبة فطرية أن يتمثل العقل الجمعي اللاشعوري لمجتمعة. و أنه كان مهيئاً للإستجابة لأحلام هذا العقل و تطلعاته بما تمتعت به شخصيته من مزايا و خصائص متفردة.
و ثمة الكثير مما كتب عن التأثير و التأثر الموضوعيين بين الظروف السياسية و الإجتماعية الواقعية لأي مجتمع و البطل التاريخي الذي يقود شعبه للتصدي للتحديات التي يواجهها هذا المجتمع.
و هو تأثر و تأثير لا يمكن أن ينكرهما منكر فالظروف الموضوعية و التحديات لا تخلف البطل إلا بقدر ما يوجهها و يؤثر في حركتها و اتجاهها و خلقها هو.


و قد توفرت في شخصية الملك عبدالعزيز العناصر التي جعلت منه مستودعاً لأحلام شعبه و بوصلة لإستشراف معالم مستقبلها، و قارئاً واعياً بمدى حاجتها الضرورية للتوحد.
و يدرك المؤرخون مند أقدم العصور أن جزيرة العرب و لطبيعة تكوين مجتمعاتها لم تعرف التوحد سوى مرة واحدة في تاريخها مند أقدم العصور فهي موزعة بين كتل و كيانات أقليمية جهوية و قبلية متفرقة، أو بين أحلاف و تحالفات داخلية و خارجية، لم تتوحد في كيان سياسي واحد يجمع شتاتها سوى مرة واحدة في صدر الإسلام،ثم لم تلبث أن عادت إلى حالتها السابقة من تشردم و تفرق و شتات.


وحده استطاع الملك عبدالعزيز ndash; طيب الله ثراه ndash; و جزاه عن أمته خيرا ًفي آخرته أن يوحدها و يجمع شتات أهلها و مجتمعاتها في كيان سياسي على أساس متين من شرع الله الذي يوحد و يجمع عقول و قلوب أهلها و ليواصل أبناءه من بعده استكمال البنيان الذي أرسى أسسه و النهج الذي سار عليه
دعونا الآن نتقدم خطوة أخرى لنسأل أو نتسائل عن هوية هذه الأسس التي انطلقت منها تجربة التوحيد و التي كانت النطفة التي اشتملت على الأشكال الجنينية للدولة هويةً و مؤسساتاً.


فكرة التوحيد في حد ذاتها قاعدة دينية و تعتبر هي المدخل الأول للإيمان بالله. و من هنا فإنها سياسياً و دنيوياً تتجلى في توحيد الدولة المتوزع ولاء أهلها بين الكيانات الجهوية و المذهبية و القبلية، لتذوب الولاءات المتناثرة المتفرقة في مصب هو الدولة القائمة على أساس من الشرع الإسلامي الذي ينظم الحياة الفردية الشخصية و الحياة الاجتماعية العامة و العلاقات بينهما و في هذه التجربة فإن التنمية والتحديث عن طريق العلم هما الوجه الدنيوي أو الإنعكاس التطبيقي العملي للأمر الإلهي للإنسان بإعمار الأرض و الإرتقاء بالحياة فيها إلى يتحقق فيها الأمر الإلهي بالعدل و الإحسان لكل حي و شئ في هذه الأرض.


و يدلنا على مدى تداخل اللحظات الثلاث و اندماجها و هي لحظات التوحيد و التأسيس و التحديث إنه لم يكد ينقضي عامين على إعلان التوحيد حتى أسس الملك المؤسس وزارة المعارف العامة عام 1926م و التي شرعت باستقدام المدرسين من الخارج و في العام نفسه أسس في الرياض و المناطق المتاخمة لها 12 مدرسة حكومية و أهلية بلغت ميزانيتها حوالي 6 آلاف جنية بين عامي 1928-1929 ثم ارتفعت في العام التالي 29-1930م إلى 23 ألفاً و في أوائل الثلاثينيات أنشئت مدارس جديدة في مدن الحجاز و في الرياض ثم في حائل و بريدة و عنيزة و القطيف و الجبيل.


ثمة أمر و نحن نناقش هذا يجب أن ننتبه إليه جيداً و هو أن التحديث و رغم أنه كان ضرورة أكثر من قصوى نسبة للتخلف الشديد الذي كانت تعيشه مجتمعاتنا بسبب عزلتها الطويلة، و التي امتدت لآماد سحيقة باعدت الشقة ثقافياً و حضارياً بيننا وبين مجتمعاتنا العربية الشقيقة الأخرى، و التي تعرضت لصدمة التحديث التي ترافقت مع دخول الإستعمار البريطاني و الفرنسي بلادها.


إلا أن هدا التحديث واجهته القوى المحافظة عندنا بمقاومة شديدة رغم أنه لم يأت محمولاً على أكتاف المستعمر الأجنبي، بقدر ما كان نابعاً من ذاتنا و إحساسنا بضرورته لإرتقاء دولتنا و محاولتنا اللحاق بركب المجتمع العالمي الحديث الذي تتراكض خطواته متسارعة تقدماً و تطوراً، و أخداً بالوسائل العصرية في الإنتاج و النظم و في وسائل الحياة المعيشية.
و هذا هو المأزق الذي يواجه هوية المجتمعات دائماً.


أعني هذا الصراع المفتعل بين الهوية و التغيير أو كما يسمى أحياناً بين الأصالة والمعاصرة.
و إلى الآن لم أجد، و أظنكم مثلي لم تجدون من يقنعنا بأن هناك تناقض و تضاد بين التغيير و التطور و التحديث أو بين المحافظة على الهوية و الأصالة و الخصوصية الثقافية لأي مجتمع.


و كان الملك المؤسس في طليعة من تمتعوا بالرؤية المتجاوزة الواعية الواضحة لهذا المشكل الذي شغل و ما زال يشغل عقول كثير من مفكري دول العالم إلى الآن. فعلى الرغم من تحفظات و مقاومة المحافظين أيد الملك عبدالعزيز ndash; رحمه الله ndash; إدراج مواد مثل الرسم الهندسي و اللغة الأجنبية و الجغرافيا في المناهج الدراسية. في وقت كانت فيه حوالي 22 ساعة دراسية في المدارس الإبتدائية مكرسة للمواد الدينية من مجموع 28 ساعة دراسية. و حتى في المدارس الثانوية و في السنة النهائية منها كانت هذه المواد تشكل 25% من الحصص.


و إبتداء من ديسمبر 1924 م بدأ في مكة صدور جريدة (أم القرى )شبة الرسمية، و في 1932 م صدرت جريدة quot;صوت الحجازquot; ثم حلت محلها صحيفة quot;البلادquot; التي أصبحت عام 1953 م أول جريدة اسبوعية و صدرت quot;المدينة المنورةquot; قبلها في عام 1938 م و غيرها من المجلات التي كانت تصدر بشكل غير منتظم في مكة، أما بالنسبة لنجد فقد صدرت مجلة اليمامة الأسبوعية عام 1953 م في الرياض.
لم تكن خطوات التحديث في المملكة عند بدء تأسيس الدولة تسير بسهولة و إنما كان التحديث يتم عبر مشاق و مكابدات و إعتراضات تثار من قبل قوى ذات تأثير من داخل المجتمع، و أظنكم جميعاً على علم بتفاصيل وقائع تلك الأيام المجيدة التي كان الملك الإستثنائي يعمل فيها بجد و إصرار و قوة إرادة و صبر خرافي لكي ينجز أكبر ثلاث مهام يمكن أن يواجهها رجل تاريخي، توحيد مجتمعات متناثرة، و تأسيس دولة من الصفر، ثم تحديث الدولة و المجتمع و الإنطلاق بهما لإختصار مسافة زمنية بين هذه الدولة و العالم، و هي مسافة كبيرة و واسعة، إلا إن كل ذلك تحقق بفضل الله ثم بفضل وعي و إخلاص و قوة إرادة الشعب و قادته و ولاة أمره.
لله الحمد والفضل و المنة.

د.صالح بن سبعان

أكاديمي وكاتب سعودي
E-mail:
[email protected]