أصاب دائما بكآبة خفيفة بعد الانتهاء من قراءة كتاب جيد هو أشبه بشعور الفقدان..وهذا ما حدث لي بعد أن انتهيت من قراءة كتاب الألمانية (كارولا شتيرن) التي توفيت في الثمانين من عمرها الحافل بالنجاح الأدبي وخصوصا كتابة السير..وكتابها هذا الذي نستعرض هو من هذا النوع..انه ( على مياه الحياة)..وهو سيرة للممثل والمخرج الأهم في تاريخ المسرح الألماني قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها ( كوستاف كرونكنز،1899-1963)..والممثلة الألمانية(ماريانا هوبة 1909-2002).
قد يكون أن لا احد يعرفهما في العالم العربي،لكنهما عكس ذلك في أوربا وخصوصا في البلدان الناطقة باللغة الألمانية،هما أسطورتان حلقتا عاليا في سماء المجد وحفروا أسمائهم إلى الآبد في ذاكرة ووجدان الشعب الألماني..أسباب كثيرة حدت بي لاستعراض هذا الكتاب الرائع،ولكن لنبدأ أولا في عرض سريع،وهو مجحف في كل الأحوال،لأنه كتاب يستحق أكثر من استعراض سريع،واحتل زمنا طويلا قائمة أفضل الكتب مبيعا في ألمانيا.
ولد كوستاف كرونكنز في دسلدورف غرب ألمانيا في نهايات القرن التاسع عشر في بيئة فقيرة لكن الفتى الصغير،وكأنه تلقى رسالة سماوية لم يحد عن هدفه،وهو أن يصبح ممثلا مسرحيا..انه إنسان مسكون وممسوس ومجذوب إلى هذه الخشبة السحرية،بدا يدرب نفسه خلال الدراسة الابتدائية وما بعدها لهذا الغرض النبيل،ولم يبقي على أي جهد في سبيل ارتقاء خشبة المسرح بعد أن تجاوز الثامنة عشر،ومن ثم البقاء عليها حتى مماته!..واستطاع خلال مشواره الفني الطويل والمحفوف بالمشاكل من أن يحقق كل ما يرغب فيه فنان في أي بقعة في العالم،وقدم كل الأدوار التي يرغب فيها الممثل،من فاوست إلى الملك لير إلى هاملت،وهذا الأخير قال عنه انه كان دور عمره،وانه بعد أن قدمه لسنوات طويلة وفي عروض إخراجية مختلفة،قال انه قد عرف بأنه تربع على عرش المسرح وحقق كل الأماني والأحلام.كان الجمهور الألماني يقف طوابير طويلة تحت الثلوج والأمطار للحصول على تذكرة في عروضه الكثيرة والمتنوعة،وان عروضه ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت تباع تذاكرها بمجرد أن يعلن أي مسرح عنها!..وحتى بعد أن دمرت ألمانيا بعد الحرب وتحولت مدنها الجميلة إلى مجرد خرائب تنعق فيها الغربان كما يقال،كان أول شيء يفعله كرونكنز هو التمثيل،وذاكرة الشعب الألماني لا تنسى طوابير الناس الجائعة التي استغنت عن ما هو ضروري لتقف في انتظار تذكرة مسرح!..فالمسرح وعموم الحياة الثقافية ليست بالشيء الكمالي في حياة هذا الشعب،بل هو ضرورة كما ضرورات المأكل والملبس وغيرها..
أما ماريانا هوبة فهي قادمة من مقاطعة مكلنبورغ،وهي من المقاطعات الفقيرة والقابعة في أقصى الشمال الألماني على بحر الشمال،ولم يكن عشقها المجنون للمسرح ليقل عن عما هو معروف عن كرونكنز،وتماما كما هو وبعد أن بلغت الثامنة عشر،تركت عائلتها لتخوض التجربة وتنتمي إلى إحدى فرق الهواة وتجول معها في القرى والمدن الصغيرة في كل ألمانيا،كان هدفها واضحا منذ البداية،ألا وهو العمل على خشبة احد المسارح المشهورة وخصوصا في برلين.فهذه المدينة كانت قبل الحرب فعلا متروبول،يقصدها كل رواد الشهرة والساعين خلف بريقها من كل دول العالم،ولم تكن اقل سطوعا وتأثيرا من باريس أو لندن..ارتبط كرونكنز بعلاقة حب انتهت بالزواج مع اريكا مان وهي ابنة الكاتب المشهور والحاصل على جائزة نوبل للآداب،توماس مان..وكذلك في علاقة صداقة قوية مع أخيها،كلاوس مان،وشكل هؤلاء الثلاثة بالإضافة إلى الممثلة باميلا فيدرمان،فرقة تمثيل،حيث يكتب لهم النصوص كلاوس مان والبقية تمثل،واستطاعوا جلب أنظار النقاد إليهم لما كانت تحمله النصوص من ثورية اجتاحت عشرينات القرن المنصرم بالإضافة إلى روعة التمثيل..كان كرونكنز بارتباطه باريكا قد حقق لنفسه نقلة كبيرة،فهو الفقير المعدم غير المعروف وهي الثرية ابن أشهر كاتب في ألمانيا، ففتح هذا الزواج له أبواب المجتمع المخملي والنخبة الثقافية في البلد،كما أنها كانت تريد الشهرة بعيدا عن ظل أبيها وحضوره القوي،فاختارت التمثيل وساعدها كرونكنز بموهبته الخارقة،ألا أنها لم تستطع تصبح بالفعل ممثلة مشهورة،وبقيت طوال عمرها في ظل أبيها!..كانت أول بوادر الخلاف قد بدأت بينهما بعد أن تأكد هو أنها غير جادة في عملها المسرحي،وبعد أن شعرت هي بان لا شيء في هذه الأرض بقادر على أن يشغل موقع الأفضل في قلبه غير المسرح..
الأحداث كانت تجري بسرعة في كل أوربا قبل الحرب،وفي ألمانيا بإيقاع أسرع بكثير..الحزب النازي بقيادة هتلر،بدا يستقطب أعداد كبيرة من المنتمين،ويلقى ترحيبا ولو خجولا في بعض أوساط المثقفين..أما أغلبية النخبة المثقفة فقد بدأت تتململ وتستشعر الخطر القادم،بل بدا الكثير منهم في مغادرة ألمانيا لأنهم باتوا يعتقدون أن كل ألمانيا ستسقط كالثمرة الناضجة بيد النازيين،وفكرة أن النازيين قد فاجئوا الألمان بارتقائهم أعلى سلم السلطة هي كاذبة!..النازيون كانوا لا يخفون تطلعهم للسلطة بل كانوا ينشرون في صحفهم كل ما ينون فعله وكل برامجهم،بل أن تلك الصحف لم تتورع من نشر قوائم سوداء بأسماء المثقفين غير الموالين لأفكارهم العنصرية والتي لا تعترف بعدى الثقافة الآرية للعنصر الجرماني..كذلك لم يخفوا عدائهم لليهود وتحميلهم مسؤولية تدهور الوضع الاقتصادي والثقافي والسياسي في البلد، وحاولا خلق بعبع اسمه اليهودي والشيوعي وتركيز أنظار الشعب عليه ليسهل لهم القفز إلى السلطة!..الكثير من اليهود المثقفين وغيرهم من الألمان استطاعوا أن يستشعروا الخطر وتركوا ألمانيا عندما كان في الإمكان فعل ذلك،قبل حل الأحزاب..وكان من الذين اخذوا هذه التهديدات على محمل الجد وبعد رأى بأم عينيه كتبه وهي تحرق في الساحات العامة من قبل الشبيبة النازية،كاتب ألمانيا الكبير،توماس مان وعائلته،حيث هاجر إلى فرنسا في البداية،وغادرها إلى أمريكا قبل أن تسقط تحت الجزمة النازية،ومن هناك عمل الأخوين مان،كلاوس واريكا في الإذاعة الموجهة إلى الشعب الألماني والمعارضة للنازيين.كانت الهجرة مريعة فهي شملت آلاف من الفنانين والكتاب والتشكيلين والفلاسفة،وكلهم ترتعد فرائصهم خوفا من جهاز الغستابو الشهير الرهيب الذي انزل الرعب على كل أوربا.
كوستاف كرونكنز وماريانا هوبة لم يفعلا!..من المعروف عن هذان الفنانان أنهما من غير المهتمين بالسياسة،ولا شيء في حياتهم غير المسرح،قدما إعمال لكتاب يساريين كثر،بل أن ماريانا كانت تفكر قبل سنوات في مسالة انتمائها الفعلي إلى الحزب الشيوعي الألماني،كما قالت هي بعد سنوات طويلة،لكنها قالت أيضا أنها لم تكن بالفعل تفهم من أفكار الحزب أي شيء! لكنها أرادت الانتماء لان هذا كان شيء أشبه بالمودة في عشرينات القرن المنصرم!..كان تقديم الاثنان لأعمال يسارية من منطلق قناعتهما بجودة الحبكة الدرامية وباعتبار مثل هذه الأعمال شيء جديد على المسرح الألماني آنذاك.. فبالرغم من جو الاستقطاب السياسي الهائل في تلك المرحلة ألا أنها لم تنجح مع الاثنين،كل على حدة،في أن تسرق منهما عشقهما الغريب لخشبة المسرح،فكل ما يجري خارج هذه الخشبة هو هراء وغير حقيقي!..فالمسرح وحده يظل الحقيقة التي لا تقبل أي جدل!..
صعد النازيون إلى السلطة عن طريق الاقتراع الديمقراطي وليس عن طريق انقلاب عسكري على الطريقة الشرق أوسطية،أو عن طريق التوريث على الطريقة الشرق أوسطية أيضا!
كان الوسط الفني مازال تحت تأثير الصدمة،ألمانيا تحولت إلى بلد ديكتاتوري،تهتف جماهير الغوغاء بحياة القائد الأعظم والحزب الأوحد!..مساحات الحرية بدأت تتقلص بشكل سريع ومبهر!..القوائم السوداء التي اعتقد بعض السذج بانتهائها في الأدراج المنسية،بدأت تأخذ طريقها للتنفيذ بسرعة مدهشة أيضا..غوبلز وزير الأعلام،بدا يدقق في مواقف النخب الثقافية،ويطهرها من كل ما هو متأثر بفكر يساري أو كنسي أو ليبرالي..والاهم من كل ذلك من كل جذر يهودي!..فمن تثبت عليه تهمة، جريان دم يهودي في عروقه،يساق فورا إلى معسكرات الاعتقال سيئة الصيت،وهناك لا مصير لهم سوى الموت!..كوستاف كرونكنز استشعر الخطر على حياته،فاسمه كان مدرجا في تلك القوائم المخيفة بسبب البعض من أعماله اليسارية،لكن لحسن حظه أن احد أقطاب النازية وهو وزير الطيران الحربي غورنغ،كان من المعجبين به،كما أن زوجته،ايملي،كانت زميلة كرونكنز لأعمال كثير على خشبة المسرح،واستطاع بذلك أن يبتعد عن معسكرات الاعتقال التي بدأت تنتشر كنبات الفطر البري بسرعة غريبة في كل أنحاء البلاد وبعد ذلك في عموم أوربا..منذ ذلك الحين انقسمت النخبة المثقفة في ألمانيا إلى قسمين..مع آو ضد!..فالذين هربوا بأرواحهم وعقولهم هم الذين قادوا حملة الضد،والذين بقوا مترددين وحائرين ومناصرين هم الذين أطلق عليهم تسمية..مع!..لكن السؤال الأهم والدقيق،والذي أرادت المؤلفة أن يطرح بقوة،هو هل كان فعلا كل الذين اثروا البقاء في ألمانيا كانوا فعليا مع النظام ومتوافقين معه ايدولوجيا؟..أرادت المؤلفة أن تحلل أكثر من أن تجيب على هذا السؤال الخطير عبر 400 صفحة،وهذا هو محور اهتمامي بالكتاب..انه كتاب سيرة من النوع الذي لم نعهد له مثيل في الأدب العربي،فهو في النهاية لم يكن همه الأرشفة أو كتاب سيرة فلان الفلاني من البداية إلى الختام،بل محاولة تحليل ونقل وأرشفة ورصد..ووحده قارئ هذا الكتاب،والمطلع على الكم الكبير جدا من المصادر التي اعتمدتها المؤلفة،والجهد الخرافي،من يقرر في النهاية أن كان كوستاف كرونكنز أو ماريانا هوبة هما من المتعاملين من النظام النازي أو لا !..والمؤلفة تبقي نفسها ورأيها الشخصي بعيدا جدا عن فهم القارئ،فهي كانت بحق الناقل الأمين ليس ألا!..لم تحاول أن تكسب تعاطف القارئ معهما أو أن تؤلب عليها..كل قارئ حر في رأيه،فهي تظهر وقائع كيف كان الاثنان،بعد أن ارتبطا بالزواج، يعملان خفية لإنقاذ العديد من الزملاء من قبضة النازية،وخصوصا من اليهود،ومساعدتهم للسفر إلى الخارج أو إخفائهم في الداخل،هذا بالإضافة إلى المساعدات المالية الكثيرة،ومن جهة أخرى تنشر لنا صورهم مع أقطاب رجالات الحكم النازي،من هتلر ونزولا!..بل أنهما أصبحا في تلك الفترة درة المسرح الألماني وذروته.ماريانا مثلت العديد من أفلام البروبوغاندا والمعادية للسامية،كذلك فعل كرونكنز،وخصوصا الفلم الأشهر( اليهودي الجميل)..والذي يعتبر من أكثر الأفلام النازية الشديدة العداء لليهود،والذي بسببه منع الانكليز،بعد انتصار الحلفاء في الحرب،كرونكنز من العمل في السينما أربع سنوات!..في معرض دفاعهما عن نفسيهما،بعد زوال الحكم النازي البغيض،أنهما كانا مضطرين!..فكل شيء كان مراقبا ومحكوما بحصار شديد،من الصحافة ومن قبل جهاز الغستابو الرهيب نفسه..وهما في النهاية ممثلين وليس سياسيين!..أما أعدائهما فقد كانوا يوجهون إليهما تهمة التخاذل والاستسلام وعدم الهرب والمقاومة كما فعل غيرهم من المثقفين،وان بقائهم وقبولهم هذه الأعمال التي تمجد الفكر النازي هو اكبر دليل على نازيتهما!
بعد انتهاء الحرب قضى كرونكنز في احد سجون الروس التي أقيمت على الأراضي الألمانية،تسعة أشهر باعتباره من المتعاونين،والغريب انه قد كون فرقة تمثيل في ذاك المعتقل،وكان كبار القادة الروس يأتون ليشاهدوا هذه الأسطورة الحية على خشبة المسرح!
الحرب وضعت أوزارها،والهاربون من جحيم النازية بدؤوا في العودة..كوستاف كرونكنز ومارينا هوبة ينفصلان عن بعضهما لكنها يبقيان على علاقة صداقة كبيرة بينهما..الحلفاء سمحوا لكرونكنز بالعمل بعد أن أطلق سراحه من السجن الروسي فقط على خشبة المسرح وبعد أربع سنوات في مجال السينما أيضا..وهو يقيم بروفاته بنشاط محموم ذهل كل العاملين معه وسط الأنقاض!..يمهد لعرض هاملت..من العائدين صديقه القديم كلاوس مان،وعدوه الجديد..كلاوس يحضر العرض الأول في برلين ويجلس في المقاعد الأمامية ببزة الضباط الأمريكان،حيث كان يعمل معهم كمترجم ومراسل صحفي، وخلال إقامته في أمريكا كان قد أنجز العمل الأدبي الأشهر في حياته القصيرة،( منفستو) وهو اسم الشيطان في رواية غوتة الأشهر في التاريخ ( فاوست)..ولم يكن يقصد بهذا الشيطان سوى صديقه القديم كوستاف كرونكنز!..وهو أشهر ما كتب من حيث القيمة الأدبية من قبل كل النقاد..ولم يقبل بطباعة هذا العمل في داخل ألمانيا ألا بعد سنوات من وفاة كلاوس منتحرا!..وعندها بيعت من الطبعة الأولى فقط 300.000 نسخة!..كرونكنز حاول مترفعا في العديد من المقابلات الصحفية والمتلفزة أن ينكر قراءته لهذا العمل ndash; الكيدي!- لكن سكرتيرته الشخصية وبعد وفاته اعترفت أنها شاهدته لأكثر من مرة وهو يقرأ في هذا الكتاب،بل انه في إحدى لحظات جنونه فكر بتحويل العمل إلى خشبة المسرح!..أن قصة العداء الذي استحكم بين الأصدقاء تختصر بشكل ممتاز أزمة الفكر في هذا البلد،وتكشف عن عمق الأزمة التي ضربت أوساط المثقفين في ألمانيا،حيث الانقسام الحاد بين المجموعتين( المع والضد) لم تنتهي بعد زوال الحكم النازي بل أنها سجلت بداية لتصفية الحسابات..
ألا يذكر ذلك بالعراق حاليا؟.والانتشار السرطاني لنغمة أدباء الداخل والخارج؟..الم تتطاير الاتهامات في كل أرجاء المعمورة بين الطرفين وكل واحد يخون الآخر ويلغيه،ودم البلد الشهيد لم يجف بعد؟!!
أن الظروف السياسية التي أدت إلى تقسيم ألمانيا إلى بلدين،ومن ثم بناء الجدار العازل بينهما في ليلة خرافية واحدة،ساعد كرونكنز وهوبة ومن على شاكلتهما من أصحاب المواقف الملتبسة،في تخطي الكثير من العواقب،فلقد استفاق الشعب الألماني في صباح 13.8.1961 ليجد نفسه منقسما إلى بلدين،جمهورية ألمانيا الديمقراطية،وشقيقتها الغربية!..كانت الصدمة مروعة بل وصاعقة،ومع الجدار البرليني أعلن عن بداية الحرب الباردة بين العملاقين الروسي والأمريكي،ومعه شهدت ألمانيا نوعا جديدا من عملية الاستقطاب السياسي الحاد والفارض نفسه عليهم بقوة..على كل طرف أن يلملم أطرافه بسرعة ومن ثم يبدي استعداده على خوض هذه الحرب المفروضة عليهم ومن ضمن الأسلحة الكثيرة كانت هناك الحرب الثقافية!..فألبرت برشت قاد حملة ألمانيا الشرقية في تجميع مثقفين ذو أسماء وميول يسارية إليها،ووقع اختيار الجزء الغربي على كرونكنز ليلملم شتات المناصرين للمعسكر الغربي الليبرالي!..وهكذا تناسى الجميع وبسرعة،كل ما يمت للماضي من صلة،ولمعت صورة كرونكنز ومن على شاكلته بل وأعلنت براءتهم من تهم التعاون مع الحكم النازي!..فهل العراقيين محتاجين إلى جدران عازلة لكي يتم التغلب على هكذا مشكلة..أدباء الداخل والخارج؟..
لقد تميز الشعب الألماني بروح تسامحيه عالية وبرقي حضاري في التعامل مع بعضهم البعض ولم يتم اللجوء إلى أقذر سلاح عرفته البشرية،ألا وهو سلاح التصفيات الجسدية المتوحشة،ولم يتم طباعة قوائم سوداء تطالب بتصفية هذا الشاعر أو ذاك القاص أو تلك المغنية،أو إصدار فتاوى تهدر دم هذا الكاتب أو ذاك بسبب رواية أو عمل أدبي!..لجئ الألمان إلى سلاح المحاكم والمساجلات الأدبية والى الضمير الأخلاقي والمهني واعتمد بدرجة كبير على وعي الشعب وقدرته على فرز الجيد من السيئ..وهاهو حامل جائزة نوبل للآداب غونتر غراس يعترف بعد سنوات طويلة جدا وبدون ضغط من أي جهة عليه،بأنه قد انتمى في شبابه إلى سلاح الصاعقة الألماني والذي كان عصب حيوي جدا في آلة إدامة الفكر النازي في تلك الفترة المظلمة من حياة هذا الشعب،لقد قامت الدنيا عليه ولكنه بصراحته التي أبهرت الألمان اكتسب تعاطف الكثير من زملائه ومن الشعب الألماني نفسه،والعاصفة التي أثيرت بدأت تخبو بعد أن راهن الكاتب على وعي الشعب وقدرته على التسامح..وإذا أردنا المقارنة بين الشعبين الألماني والعراقي،فنحن في النهاية نفتقر إلى قدر كبير من التسامح ونملك قدرة كبيرة على أنتاج العنف القاتل!..ما أريد أن أقول أن المساجلات الأدبية والسياسية كانت وما تزال ملتهبة في هذا البلد في كل ما يخص الماضي،ولا اعتقد بان هذا الجدل أو محاسبة الذات سينتهي بسرعة بل هو مرشح للتداول سنين طويلة قادمة،رغم كل ما قيل وكتب!..وهذه من أهم مميزات الشعوب الحيوية التي تراهن على دراسة أخطائها والاستفادة من عبرها،وليس المحاسبة من اجل المحاسبة فقط!..
استطاع كرونكنز وهوبة في ظل الظروف السياسية المستجدة،أن يتبوءا مكانتهما الفنية بسرعة،بل أن ماريانا هوبة تحولت إلى أسطورة حقيقة وديفا لا يرقى إليها شيء،كرونكنز تحول إلى مفصل مهم في تاريخ المسرح الألماني العريق،حيث يقال في كتب المختصين،مرحلة ما قبل كرونكنز وما بعده!..أما عن مواقفهما السياسية،فالكاتبة كارولا شتيرن تثبت لنا بان الاثنان لم يكون يهمهما أبدا الموقف السياسي،فهم كرونكنز الأول والأوحد كان ينصب على تلك الدائرة الخشبية المسرحية الساحرة،وحتى أن الكثير من الأعمال الأدبية الراقية والتي تحمل في طياتها أفكار سياسية لم يكن يقرأ هذا الجانب ألا على أساس انه مكمل للقيمة الأدبية وضمن الموقف الدرامي العام!..والكثير من نقاده يقولون بان الفنان الذي لا يرى ابعد من خشبة المسرح التي يعمل عليها هو في النهاية صيد سهل لأي فكر منحرف كالفكر النازي،لكنه هكذا كان،ولم يتنازل عن خطه هذه طوال حياته الفنية..كان يعيش بالمسرح وله فقط!..أما هوبة فأنها كانت تطلق في بعض الأحايين بعض التصريحات السياسية،لكنها تبقى في حدود العموم ولا تكتسب طابع التحدي أو تصل إلى مواقف،ففي سبعينات القرن المنصرم انتقدت عملية نصب صواريخ نووية في ألمانيا الغربية والموجهة نحو المعسكر الاشتراكي،أو بعد عملية غزو العراق للكويت حيث قالت( نحن نسلح هذه الدول،وعندما يستخدمون السلاح،تمتلكنا الدهشة!)..لكنها كانت مثل كرونكنز لا تهتم بالسياسة فعلا.
كرونكنز كان آخر محاربي المسرح الكلاسيكي بل وحارس الأعظم..فهو قد رفض تقديم أعمال كثيرة لكتاب شباب برزت أسمائهم بقوة بعد انتهاء الحرب،وبقي وفيا للكتاب الكلاسيكيين مثل غوتة وشلر وشكسبير وموليير وغيرهم،رفض أن يقدم أعمالا للوركا ويونسكو،ففي حين لقيت مسرحية بيكت( في انتظار غودو ) نجاحا مدويا في باريس،رفض هو أن يقم أي عمل لبيكت!..على العكس منه كانت هوبة،فقد تعاملت مع الجيل الجديد بدون أي حساسية،بل أنها ساهمت في تقديم أعمال الكثير منهم ونجاحهم بسببها،مثل توماس بيرنهاد،فالكثير من المسارح كانت تخاف تقديم أعماله التي تتضمن النقد الجارح والقاسي لمجتمع بلده النمساوي،حيث اتهمه بالنازية والرياء والبشاعة،حتى وصل الأمر بالنمساويين إلى منع أعماله على المسارح في النمسا إلى زمن طويل حتى بعد وفاته!..أما هوبة فقد قدمته إلى الجمهور الألماني وساهمت في انتشار أسطورته،بل وصلت بها الحداثة إلى أنها لم تحجم من تقديم رائعة شكسبير(الملك لير!)وقدمته في عرض مبهر حبس أنفاس عشاق المسرح والنقاد،تحت أشراف المخرج الأمريكي الشهير جدا،روبرت ولسن!..وعندما سئلت في احد اللقاءات المتلفزة عن سبب أقدامها على هذه المغامرة الجريئة،قالت أن الملك لير هو (حالة قابلة للقراءة في كل زمان وعلى أي إنسان!)..أليس هذا صحيحا إلى حد بعيد!
لكن حياتهما فيما بعد الحرب لم تخلو من أشباح الماضي الذي كان يتململ بين الحين والآخر بسبب مقالة أو كتاب أو تصريح..فالشعب الألماني،وخصوصا جيل ثورة الطلاب،أراد أن يضع كل ما حدث في الماضي تحت منطق السؤال والجواب،بل الإصرار على الأجوبة مهما كانت مؤلمة،حتى يتحقق له التحرر ومن ثمة الانطلاقة الجديدة الصحية وتحقيق المصالحة مع نفسه ومع ماضيه..كوستاف كرونكنز وماريانا هوبة كانا شاهدان على العصر،وليس كأي من الشهود العاديين،لهذا سواء أرادا أم العكس كانا دائما يجلبان إلى مركز الحدث المقلق،وهما بكثير من البراعة استطاعا أن يبقيا أنفسهما ضمن المنطقة المحددة والتي تقع ما بين العتمة والضوء،وكانا يدافعان احدهما عن الآخر بصورة مستميتة إلى آخر أيامهما،عندما يسال احدهما عن الآخر!
كوستاف كرونكنز توفي في عاصمة الفلبين،مانيلا،خلال جولة له حول العالم،لقد تناول الكثير من الحبوب المنومة،ولا احد يعرف لحد الآن، أن كان انتحارا أم موتا غير متوقعا!..ماريانا هوبة عاشت سنوات أطول منه،فآخر أدوارها على خشبة المسرح لعبته وهي في الثامنة والثمانين من عمرها!..ثم عاشت في احد دور العجزة وابنها بالقرب منها إلى أن توفت في بايرن في الثانية والتسعين !.. ذهب الاثنان إلى عالم الغيب وخلفا وراءهما الكثير من التاريخ المشرف والأسئلة الغامضة..كان قسما من الشعب الألماني قد قاطع اعملاهما ورفض دخول مسرج أو سينما يكون احدهما طرفا في التمثيل!..في حين أن قسما آخر من نفس الشعب كان يقف في طوابير طويلة في سبيل رؤيتهما في هذا الدور المسرحي أو ذاك الفلم السينمائي!..في النهاية هما جزء مهم من قصة بلد وشعب وثقافة..هل كانا ضحية حكم سياسي فاشي رهيب،آم أن هذه الظروف عينها قد كرست أسطورتهما إلى الآبد؟..هل يمكن أن نسامح ونغفر وان لم نفعل هل يمكن أن نكف عن استخدام العنف؟..ألا يمكن أن نستفيد من تجربة الألمان ونضع تاريخنا كله على محك الأسئلة المقلقة والوجودية،حتى نتخلص من تركة أسلافنا؟..هل نبدأ بتعريف المواطنة،والانتماء السياسي أو الديني؟..هل يمكن؟ هل يمكن؟..
زهير الهيتي
[email protected]
- كاتب عراقي مقيم في المانيا
التعليقات