كثيرا ما افكر بمن ولدوا فى العراق فى الخمسينات من القرن الماضى وأشعر بالأسى والمرارة عليهم. أول الخمسينات كانت قلاقل واضطرابات قومية بتأثير من ثورة اكتوبر المصرية، وآخرها القضاء على الحكم الملكي وما تبعه من نزاع على الحكم واراقة الدماء. ولم يمض على الحكم الجديد خمس سنوات حتى وثبت على الحكم عصابات البعث الدموية عام 1963 وعاثت بالبلد فسادا،ولم تكمل السنة حتى استولى على الحكم أشد الناس جهلا وأنانية وأولعوا لهيب الطائفية. وبعد خمس سنوات عادت عصابة البعث مرة أخرى لتنتقم من الجميع وأرجعت البلد الى ما يشبه حكم الحجاج ابن يوسف الثقفي وارتاع الناس ولم يعودوا يتكلمون الا همسا او بالأشارة.

وفى نهاية السبعينات زجهم البعثيون فى حرب مع ايران أكلت الأخضر واليابس وكلفت العراقيين ثلاثة ملايين على الأقل بين قتيل وجريح. و بعد سنتين من انتهاء حرب السنوات الثمان مع ايران، غزوا الكويت وعاثوا بها فسادا وسببوا مجىء الامريكان الى المنطقة وزجوا العراق فى حرب غير متكافئة مع أكبر قوة عسكرية فى العالم، وتخرب العراق. لم يتعلموا درسا من كل تلك الحروب فدخلوا فى جدال عقيم مع الغرب وكان الانذار الأمريكي للقائد الضرورة بمغادرة العراق مع ولديه ولكنه رفض كل الوساطات العربية والعالمية، وعادت أمريكا وحلفاؤها لضرب العراق وتدمير ما بقي من بنيته التحتية وأعادوه حقا الى العصر الحجري.

كل هذه الأمور الجسام حلت بالعراق خلال نصف قرن من الزمن، فكيف يكون حال الأجيال التى ولدت وعاشت خلال تلك الفترة الجنونية من حروب وتدميروقتل واغتيالات واعتقالات ومقابر جماعية وحصار اقتصادي وهجرة وتهجير؟ و مازلنا فى كل يوم نترحم على اليوم الذى سبقه. هبط معدل الأعمار وزاد معدل الوفيات وتدهورت الأحوال الصحية والاجتماعية، وفيما عدا قلة ضئيلة محظوظة فقد أصاب الفاقة والفقروالحرمان جميع العراقيين. الوجوه الكالحة والأجسام الهزيلة أصبحت من سمات أطفال العراق منذ فرض الحصار الاقتصادي ابان غزو الكويت حتى اليوم. أما المدارس والكليات والجامعات فهدم منها الكثير وما بقي منها قائما لايستطيع الطلبة الوصول اليها والمواضبة على الدوام فيها بانتظام خوفا من الاغتيالات والتفجيرات. وعندما يداومون ينقسمون الى سنة وشيعة يحقد بعضهم على البعض الآخر، ويجاريهم الأساتذة والمعلمون فى ذلك. الطبقة المثقفة هاجر معظمها الى خارج البلد بعد ان اغتيل الكثيرون منهم و من بينهم العالم والأديب والاستاذ والطبيب والمهندس والفني وبقية ذوي الأختصاصات التى يحتاجها البلد، وتلقفتهم الدول البعيدة والقريبة للاستفادة من علمهم وثقافتهم وفنهم وخبراتهم ومهنهم.

الأجيال الجديدة من الأطفال والصبيان قد واجهوا من الخوف والرعب والجوع واليتم ما هد أعصابهم، وكلهم يحتاجون الى العلاج النفسي والجسمي الذى يحتاج اليه أيضا الكبار الذين واجهوا نفس المصائب والنكبات. ترى أي مستقبل ينتظر هؤلاء الأطفال بعد ان اضطر قسم كبير منهم عن الانقطاع عن الدراسة بسبب الارهاب وقسم آخر اضطروا للعمل فى سن مبكرة لاطعام عوائلهم التى فقدت معيليها؟ الذئاب البشرية تتصيد هؤلاء الأطفال المشردين الذين يجوبون الشوارع والطرقات على غير هدى فتسلبهم براءتهم وانسانيتهم الى الأبد. كل هذا يحصل والسياسيون والقادة لا يكفون عن النزاع على كراسي الحكم وبعضهم استفاد من منصبه للنهب والسرقة والتهريب. بالاضافة الى كل ذلك فان دول الجوار تترصد بالبلد بسبب بتروله وموقعه فيبعثون اليه بالأسلحة والمتفجرات وبهائم الانتحاريين، والدول البعيدة تخطط وتبحث عن الطرق التى تسهل لها الحصول على حصتها من البترول.

هل أن ما يصيبنا هو بسبب النفط؟ طبعا لا، فهناك الكثير من الدول التى تمتلكه ولكنها محظوظة بقادة يعرفون كيف يتصرفون بحكمة وتعقل مع الدول الكبرى والصغرى ولا يدخلوا فى جداولهم الحروب والمنازعات، ويعملون على اسعاد شعوبهم التى لها من الادراك والفطنة ما يجعلها تدرك ان فى الاتحاد قوة وفى الفرقة زوال. ولا يمكن تحميل المسئولية كلها على الحكام وحدهم وانما يتحملها المحكومون ايضا. اذ ما الذى يستطيع القائد عمله اذا كان جنده منشغلين فى النزاع والاحتراب فيما بينهم؟ وما الذى يستطيع الجنود عمله اذا كان القائد تنقصه الاهلية والشجاعة والكفاءة لقيادتهم؟

ستون عاما مضت على شعب العراق وأطفال العراق وكل يوم جديد يكون ألعن من سابقه، و يزداد عدد الأجيال المسحوقة و لا من نهاية تلوح فى الأفق لهذه المآسي المروعة.

عاطف العزي