أكاد أكون على يقين أن هذه الحكاية التي تبعث على الأمل تواردتْ الى سمعي أولاً في بغداد قبل أن أسمعها من رجل دين مسيحي أمريكي في الولايات المتحدة. والحكاية ( العراقية والأمريكية المقتبسة ) تتلخص في ولد صغير السن يهوى ركوب دراجته الهوائية و يلعب بها في شارعه وقت فراغه. وفي يوم من الأيام، أستوقفته جارة لهم، وهي أمرأة عجوز تسكن في الشارع نفسه وطلبتْ يد المساعدة منه في نقل بعض االقمامة والأوساخ والأعشاب الميته المتراكمة من حول البيت وسحبها الى الباب ليأخذها (الزبال) حين يصل.
أبني ممكن تساعدني؟ تركَ دراجتَه الصغيرة على الأرض وقال لها بأبتسامة بريئة : طبعاً. منذ ذلك الحين تعاطف الشاب الصغير مع المرأة المُسنة، وكلما مرَّ قرب باب بيتها كان يضع دراجته وينظف ويحمل مايستطيع من حمله وتركه في كومة أمام البيت. واستمرَ الحال لفترة من الزمن. أصبح الشاب في العشرين من عمره وبدأ دراسته الجامعية. وفي يوم،أخبره والده أن بنت شابة من الجيران تبحث عنه وتريد أن تكلمه وهي تنتظر على الباب. نظر الشاب من الشباك وقال : ياساتر والله يا والدي لاأعرفها. طلبَ الوالد من الجارة الشابة بالدخول الى البيت خوفاً من أي فضيحة. بدأتْ الشابة الحديث بقولها، أن جدتها توفيتْ وهي في رعاية الله الآن، وقد تركتْ من جملة ما أستورثته الأسرة منها بعض الأملاك والمصوغات، كما تركتْ في وصيتها هذه الرسالة لأبنكم مثمنة ما ساعدها به عندما كان صغيراً.
فتح الشاب مُغلف الرسالة وقرأ محتوياتها فأنحدرت الدموع من عينيه دون وعي، فالمرأة التي لايستطيع أن يتذكر أسمها أو ملامحها عندما كان في العاشرة من عمره تشكره الآن بكلمات رقيقة وقد تركتْ له في وصيتها مبلغاً فاق خياله.
تنتهي الحكاية هنا بمغزاها العام والخاص، فعمقها المعنوي والمادي ليس له حدود ويعطي الأمل للناس بصيغ أنسانية مختلفة.
ورثَ شعبنا في العراق اوضاعاً مأساوية قاسية خلفتها له الأنظمة الدكتاتورية السابقة. وأصبحت فيه بارقة الأمل بين الشباب والشيوخ من أهلنا تلوح في أفق ضوء ضئيل لايدخل قبابنا المظلمة. ولقد سبقَ سقوط النظام العراقي عام 2003، أنهيار سياسي ونفسي تام للمواطن العراقي وشكوك همستْ في أذان الكردي والعربي والأقليات الأخرى، بأستحالة أستعادة الثقة المطلقة بالحكومة، أي حكومة كانت ومهما كانت أهوائها أو برامجها، سواء أكانت دكتاتورية فردية عشائرية لاتملك صفة ألأتصال الحضاري بالعالم، أو ديقراطية علمانية متصلة بمحيط العراق والعالم المتحضر. وقد ترك ذلك الوضع أثراً عميقاً وردود فعل حقيقية غاضبة رافقه أنتشار ظاهرة الجرائم والأغتيال والسرقات والرشاوى المالية التي لا تزال مظاهرها بينة وتسود معظم نواحي حياتنا العامة.
ونحن على أبواب الأنتخابات العامة وبغض النظر عما ستفرزه ألأنتخابات الرئاسية وأنتخابات مجالس المحافظات القادمة التي تخوضها مايقرب من 400 كيان سياسي علماني وديني عراقي
فأن المواطن المخلص للعراق لايمكنه منح الثقة مجدداً للقيادات السياسية بالسهولة التي قد يتصورها البعض ولايستطيع أن يعطيها دون خوف في مجتمع هجيني غير متجانس سادته الفوضى الداخلية والحروب وأبتلى بعناصر مليشيات مسلحة هوجاء لاتطيق النظام ولاتفهم سيادة القانون، وأدعتْ في أوقات مختلفة حمايته وصون حقوقه وأقسمتْ على خدمة الوطن والمواطن. وللأسف، فقد شملَ الشك والخوف وعدم الثقة أولئك الذين أمتلكوا الصفة الحقيقية للتضحية في سبيل رفعة المواطنين وأقسموا اليمين والشرف على تأدية الواجب بأمانة وأحترام وكرامة.
وقوى التأثير العراقية في السلطة ( وخارجها حالياً ) على أبواب مرحلة من مراحل التحول العسكري والأقتصادي التي تتطلب أظهار تأثيرها وصلابة أدارتها لموقف تاريخي يتطلب منتهى الدهاء الدبلوماسي والحكمة السياسية في العلاقات الدولية التي يرتبط بها العراق، كما يتطلب الرؤية الواقعية لحاجة العراق المستقبلية.
فتاريخياً، المراحل التحولية العنيفة التي مرتْ، هزّتْ ثقة المواطن بالحكومات المتعاقبة وأبتزَت الأحزاب السياسية والقومية والدينية أماله، بحملها الشعارات الغوغائية وشوهتْ صور بعضها البعض من جهة وصور الأخرين من جهة أخرى، بينما تكتمتْ على أفعالها القذرة بحق القوميات والأديان المتأخية.
لم يرَ العراقيون من هذه الأحزاب القومية والدينية غير الأنتصارات الوهمية على الأعداء الذين صورتهم لها مخيلاتهم المقيته. فثقافة (بعض الذين أوصلتهم الظروف الى السلطة السياسية السابقة والحالية ) لم تكن ثقافة سياسية نضالية متنورة وحكيمة لها أعتبارها، فمن ناحية، أرهبتْ المواطن العراقي وحذرته جاره ومن مواطن عراقي آخر وضخمتْ صورة العداء لمن تريد التنكيل به. وفقدَ المواطن ثقته بجاره ومنطقة عيشه ومدينته وتوجه لحمل السلاح في يده والضغينة في قلبه، دخلَ المساجد والكنائس أو خرج منها بدماء الأبرياء. وبالأضافة الى الهزات العسكرية الطائشة التي عمقتْ الصراع العراقي - العراقي ورسخته في الأذهان، أصبح من الصعوبة منح الثقة لأي شخص دون التحقق من دينه وقوميته وهويته السياسية. كما أن مرور العراق بمزيج من التحوّلات الاجتماعية والسياسية نتيجة دخول قوات أجنبية حليفة للسلطة أضاف الى هذه الهزات وأوصلتْ الناس الى روح العداء الجماعية لكل من يسير على الأرض.
فمحنة عدم الثقة بالحكومة الحالية مثلاً،ووظائف وزرائها ومؤسساتها الرسمية، لها أسبابها، وعدم ثقة المواطن بنظام المحسوبية والفساد الأداري المستشري في هيكل الدولة، له ما يبرره أيضاً. فكيف يستطيع العراقيون أستعادة الثقة بمؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية الرسمية تحت ظل ضياع سلطة الدولة؟ وكيف يستطيعون أستعادة الثقة بالمؤسسات والمنظمات والجمعيات الغير رسمية التي تفضل دين على دين وحقوق قومية على حقوق قومية أخرى؟
لقد سطر التاريخ بمرارة مامرت به الأديان و القوميات من مأسى على يد أديان وقوميات مختلفة.
وليم سيروان المفكر الأرمني المشهور يكتب بطريقته الفلسفية المؤلمة لما حلَّ بالأرمن من أبادة ويقول :
( كم أود أن أرى أيّ قوة جبارة في هذا العالم يكون بأمكانها القضاء على الجنس الأرمني، هذه المجموعة القبلية من الناس الذين لاأهمية لهم وكانوا قد خاضوا حروباً وخسروها و تساقط هيكلهم، وكان أدبهم مبهم القراءة والفهم،ولاتُسمعُ موسيقاهم، كما لاتُستجاب صلواتهم الدينية. تقدمْ الى الأمام : دمرْ هذا الجنس البشري! أسحقْ أرمينيا !!! لنرى أِن كان ذلك بمقدوركَ. شردْهُم من ديارهم وبيوتهم وأرمِ بهم في الصحراء. لاتدعهم يحملون خبزاً أو ماءاً. أحرق منازلهم وكنائسهم. ثم تأملْ لترى أِن كانوا مايزالون أحياءاً، وأنظر أِن كانوا يرددون الأغاني والصلوات مرة أخرى. فأن أجتمع أثنان منهما في أي طرف من أطراف العالم، تأكدْ أنهما لن يبدءا العمل على قيام أرمينا جديدة).
قد تتبدد الأحلام للأقوام المُهجّرة قسرأً وحنينها الى أرضها ومرتع ثقافتها( كما حدث لأربعة ملايين عراقي لاجئ في سوريا والأردن).
مع ذلك، سيبقى العراقيون على أمل وصول رسالة الخير والأمل الى أبوابهم يوماً ما. ولايستطيع المخرفون مهما حاولوا، محوَ بشاعة الأفعال البربرية التي أرتكبتها قوى شريرة جاهلة ودونها التاريخ لهم كبقعة داكنة السواد وهم ينسحبون الى جحورهم. فالعراق، وبأرادة مخلصة لن يكون أبداً قبتهم المظلمة.
ضياء الحكيم
[email protected]
ملاحظة : لأسباب تتعلق بأصول النشر، يرجى عدم الأقتباس دون الرجوع الى الكاتب
التعليقات