في العراق الكثير من الظواهر الغريبة واحيانا المضحكة، وهذه الظواهر قديمة جديدة بنفس الوقت. فلقد كانت موجودة قبل عام 2003 لكن الخوف والتوجس منع انتشارها بشكل واسع ومتداول، وطفحت للسطح بعد عام 2003 بعد ان زال ذلك الخوف والرعب وايضا مع توفر مزاج طائفي وعنصري عند البعض اصبح يلعب على المكشوف. وايضا بعد ان ظن هولاء ان ليس ثروات العراق وسلطاته قابلة للقسمة العادلة والمنصفة بل وقع بخطا جسيم وتصور ان حقائق التاريخ والجغرافية يمكن ايضا التلاعب بها حد الانقلاب التام والتشويه الكامل والسلب العلني وايضا فقدان الخجل والحياء من النفس ومن الاخرين بشكل علني. وسر هذه اللعبة المضحكة هو جعل كل رموز وشواخص وتاريخ العراق المميز لطائفة او قومية او دين معين في العراق دون غيره من بقية العراقيين.

مجرد حضور ندوة معينة او قراءة بحث معني بهذه الامور ومن شخص ينتمي الى قومية او دين او طائفة عراقية حتى تجد ان كل شيء مميز بتاريخ العراق ينتمي الى قومية او دين كاتب البحث او المحاضر في تلك الندوة!!

فيكون نبو خذ نصر وحموربي و كلكامش ومعه بابل ترافقهم حضارة سومر وكل حضارات العراق الاخرى هي كوردية او عربية او تركمانية او غيرها من القوميات والطوائف والاديان في العراق. واتذكر جيدا وقبل سقوط النظام ومن احدى المدن الاوربية كنا نتابع مايسمى حينها quot; قناة العراق quot;وكان يومها الهارب عزة الدوري يشارك في مؤتمر عربي اعلامي يعقد في بغداد داعم لذلك النظام المعتوه quot; من اصحاب الكوبونات النفطية quot;. فاصر يومها الدوري ان صلاح الدين الايوبي عربي وليس كوردي واعطى دليل غاية في السذاجة على رأيه هذا حيث ربط كون quot; القائد القومي البطل صدام حسين quot; من نفس المدينة!!

وبدأ يعدد بطولات الايوبي مقارنة ببطولات قائده الصنمي، حتى وصلت الامور بان ينهض احد المبشرين من السودان باكيا صارخا وهو يردد quot; ايها السيد النائب.. والله جليسكم لايشقى quot; وساد التصفيق بالقاعة، ومن الواضح ان الشقيق جدا السوداني لم يقصد الايوبي ولا الحفري quot;صدام quot; بل قصد ان من ياتي للعراق لا يمكن يخرج جيوبه فارغة بل محمل بكوبونات النفط في اقل تقدير في وقت كان فيه الحصار الداخلي والخارجي يذبح العراقي من الوريد الى الوريد. مثل هذه العقلية اليوم تتحكم وتهيمن على الكثير من عقول العراقيين بقصد او بلا قصد. فيجلس العراقي الشيعي ليبارز الدنيا كلها بالامام الحسين quot;عquot; وهو دون ان يدري وباسلوب معين عند البعض يحجم من دور ومكانة هذا الامام العظيم وثورته الكونية على الظلم والظلام والتحريف والاجحاف وكأنه يخص الشيعة العراقيين العرب وحدهم دون غيرهم من المسلمين او حتى من الانسانية. و في الجانب الاخر يجلس السني العراقي العربي يغتصب العروبة ومشكك بعروبة الاخرين من اخوانه في الوطن والقومية، وفات عليه ان النسبة الساحقة للاغلبية العراقية الشيعية العربية التي يشكك بعروبتها النقية الاصيلة بدونهم تضيع عروبة العراق نفسه.

واذا أصر على ان هولاء من quot; الصفويون quot; وأصر الطرف الاخر على ان السنة العرب في العراق هم من بقايا quot; العثمانيون quot; فان عروبة العراق في مهب الريح وفي فعل كان. اما مثلا اصرار البعض ان حمورابي وبابل مدينة ليس عراقية بل ان نبي الرحمة quot;صquot; نفسه ليس عربي وانه جاء بقرآن ولسان عربي لاجل افهام quot; الاعراب quot; فان هذا الراي فيه الكثير من التجنى وايضا معه عدم التميز بين العرب والاعراب. وايضا من الغريب اصرار البعض مثلا ان قوميته دون غيرها في العراق وهي الأبعد حتى بالجغرافية عن بابل هي التي ابتكرت المحراث والساعة والعجلة والدستور الاول والحرف الاول ونظام الري الاول لذلك فان عرب العراق ليس من حقهم التفاخر بذلك. ففي هذا نوع من التزيف الذي مارسه عزة الدوري وايضا بشكل علني وفج، وهذا ينطبق على المثال المأثور عندما يتحول الضحية الى جلاد، لكن هذه المرة ليس بالسوط بل بالتزيف والتزوير!!

واذكر في احدى المرات احد الاصدقاء العراقيين ضرب شمال العراق بجنوبه وشرقه بغربة وقلب بغداد عاليها واطيها ليخرج لي بنتيجة هائلة ان لاشيء ولاتاريخ للعرب في العراق!! وكوني عراقي عربي طلبت منه بالمزاح ان يبقي لنا على الاقل quot; سوق الشورجة quot; الشهير وسط بغداد، لكن الرجل وبكل ضميره أصر ( ان هذا السوق ليس لعرب العراق فيه شيء وأن الديكتاتورية اللعينة قلبت الواقع ) فخرجت من ذلك المساء الاوربي الجميل مع صديقي بلا وطن ولاتاريخ ولاجذور لي في بلدي العراق الكريم. وقبل ايام كنت مع اخرين في حلقة تلفزيونية تسجل لاحدى القنوات الفضائية حول التهديدات التي طالت أهلنا المسيحيين العراقيين في الموصل وغيرها من المدن الاخرى، فبرز لنا احد الحضور ليعلن ان العراق ليس بلد مسلم وان حتى معركة القادسية كان للمسيحيين فيها دور الريادة والنصر على الفرس لكن العرب والعراقيين منهم على وجه الخصوص سرقوا هذا النصر!! وشخصيا لااعتقد ان مسيحي العراق بحاجة الى دور الريادة في معركة القادسية حتى يفرز المنصف دورهم المميز فعلا في تاريخ وحاضر العراق.


قد تكون هذه أمثلة بسيطة ومختلفة لكن الجامع لها هو غياب اسم العراق او صفة العراقية. وكأن الكلام بهذه الصفة الكريمة والعظيمة اصبح من المعيب والمشين. لذلك حلت مكانها هذه التسميات او مفردات عامة مثل الاطياف والمكونات. ان تفكيك الحروف والكلمات والمفردات واسماء المدن والشخصيات العراقية التاريخية ووضعها في خانة كلا حسب طائفته ودينه وقوميته في حقيقية الامر لن تضيف شيء جديد بل انها تساعد في بناء اسوار من عدم الثقة بين العراقيين انفسهم والشك بتاريخهم المشرق ايضا. فاذا كانت بغداد في العصر العباسي فيها الف حمام رجالي ونسائي وتفتقد الان الى الكهرباء وكانت في عصرها العباسي يصل الماء الى كل البيوت بشكل مباشر والان مدن كبرى مثل البصرة والعمارة لايوجد فيها ماء صالح للاستهلاك البشري و بغداد في العصر العباسي فيها دار الحكمة والمستنصرية ومئات المطابع ودور الترجمة والان شارع المتنبي عبارة عن خراب متراكم. ومن بابل انطلق الوتر الاول والقيثارة الاولى اما في حاضرنا ان تعزف فرقة موسيقية في بغداد قبل اسبوع اصبحت ميزة تتداولها وسائل الاعلام بدهشة!! وفي بابل كانت المسارح الاولى بلا منافس والان العراق كله بلا مسرح ولافن الاما ندر.

فالاحرى بنا كعراقيين ان نحتفظ بذاكرة وطنية جامعة وبصفة عراقية جامعة لكل تاريخنا المشرق بعيدا عن التمترس الطائفي والقومي والديني. لان في حقيقة الامر حاضرنا لايدعوا للفرح والابتهاج هكذا ورثنا بلد مخرب حطام منذ عام 2003 وهكذا مازال في كثير من مفاصله الرئيسية يرواح في مكانه. فدعونا نبتهج بتاريخنا ودعوا فرصة لهذا التاريخ العظيم ان يجمع اشلائنا التي تناثرت على صدى سيوف الديكتاتورية الساقطة او الطائفية المدمرة، دعوا فرصة للتاريخ لكي يبني لنا حافز جمعي وفكري لاعادة بناء هذا الوطن العظيم بكل شيء حتى بجراحاته. والا الاستمرار بهذه السلوكية وهذا التفكير العقيم لن يجدي نفعا على الاطلاق وقد نصل الى حد نسأل فيه انفسنا هل كان مثلا حمورابي شيعيآ او سنيآ. فقد يدعي الشيعة بانه شيعي لان كل دولته وتاريخيه ولدت في مدنهم المعروفة، لكن بذات الوقت ومن جانب اخر قد يكون مبرر السنة جدا منطقي بالقول ان حموررابي كان سنيآ لان اهالي مدن الجنوب والوسط الشيعي تعودوا ان يحكمهم حاكمآ سنيآ. قبل ان ياتي صندوق الانتخابات وياخذ كل عراقي حقه الدستوري والانساني. وقد يكون ايضا بهذا الموضوع رأي اخر للكوردي والتركماني والصابئي والمسيحي العراقي. وقد ياتي اليوم الذي نحيل ملف مثل هكذا نقاش عقيم الى المحكمة الدستورية العراقية حاله حال ملف مجالس الاسناد العشائري. لكن بعد عودة اعضاء البرلمان العراقي من سفرة و سياحة quot;حجهم quot; السنوي المأثور و المتكرر والمعيب والمشين.

محمد الوادي
[email protected]