البيشمركة
في اللغة تعني ( البيشمركة) المتقدم للموت، ولو أردنا الترجمة الحرفية لها فهي تعني ( الشخص الذي يسابق الموت). وأرتبطت هذه التسمية بالمقاتلين الكرد في ثورة أيلول التحررية التي قادها الزعيم الخالد الملا مصطفى بارزاني والد رئيس الإقليم الحالي مسعود بارزاني بين أعوام 1961-1975..


وكانت للشخص الذي يحمل صفة ( البيشمركة) هيبة ووقار وإحترام داخل المجتمع الكردستاني يفوق كل الإعتبارات بالنسبة للمهن الأخرى، وصلت في كثير من الأحيان الى حد التقديس. وكان البيشمركة يتسحق ذلك حقا،لأنه كان يجود بالروح والدم في جبال كردستان ووديانها مدافعا عن قضية قومية عادلة لشعب كان يتعرض منذ تشكيل الدولة العراقية الى الظلم والطغيان والسياسات العنصرية الحاقدة التي إتبعها معظم الأنظمة المتعاقبة على الحكم في العراق، وكانت ممارساتها تصل في بعض الأحيان الى حد ارتكاب جرائم الإبادة البشرية بحق هذا الشعب.


ولكن هذه الهيبة وتلك القدسية ديست بالأقدام بعد سنوات قليلة من نجاح البيشمركة في تحرير أراضي كردستان من قبضة النظام الصدامي الفاشي لأول مرة في تاريخ هذا الشعب،بعد تضحيات جسيمة قدموها على إمتداد سنوات النضال القومي للشعب الكردي،والذي توج عام 1991 بتفجير الإنتفاضة الشعبية في جميع أرجاء كردستان تحت قيادة قوات البيشمركة التي تمكنت أخيرا من تحرير كردستان وتدشين تجربة فتية في الحكم الذاتي لإقليم كردستان الحالي.


فلم يكد الشعب الكردي يتنسم هواء الحرية لأول مرة في تاريخه، حتى مرغ الحزبان الكرديان الحاكمان حاليا في إقليم كردستان وجوه البيشمركة بالوحل، وأزالوا ذلك الحب والتقدير المكنون في نفوس الشعب الكردي تجاه إسم ( البيشمركة) بتوريط هذا الفصيل الثوري في أشرس وأبشع حرب داخلية أتت على رؤوس آلاف القتلى ممن كانوا يسمون ببيشمركة كردستان؟!.


ومن المضحكات والمبكيات وسخريات القدر، أن كلا الحزبين كانا يعتبران قتلاهما في تلك الحرب اللعينة والمقيتة والمرفوضة شعبيا بـ( الشهداء )؟؟!!. وكأنهما كانا يقاتلان في سبيل الله، أو في سبيل الدفاع عن حياض الوطن أو العرض، ولمن لا يعرف فقد كانت تلك الحرب السعيرة تدور حول إستحواذ كلا الحزبين على الموارد الكمركية لمعبر إبراهيم الخليل الحدودي مع تركيا؟؟!!.


ورويدا رويدا فقد البيشمركة إحترامهم وهيبتهم، وزالت هالة القدسية من حولهم، وتحولت تلك القوة الباذلة للروح من أجل قضية عادلة، الى مجرد مرتزقة يتصرف بهم الحزبين الكرديين، ويشغلانه بصراع وقتال من أجل النفوذ الحزبي الضيق، تاركين صدام حسين يذيق المصائب والويلات بالشعب الكردي في الأجزاء التي ظلت تحت قبضة حكمه الدكتاتوري، منها الشعب الكردي في كركوك التي إعتبرها الحزبان قلب وقدس كردستان، فأمعن صدام حسين في تهجير وتشريد مئات الألوف من العوائل الكردية منها، ناهيك عن حملات الإعدام والقتل في صفوف اولئك الباقون تحت سلطته بذرائع قومية؟؟!!.


سبق وأن كتبت في بعض مقالاتي بأنني كنت ضمن مراتب البيشمركة اللائذين بجبال كردستان أحمل القلم والبندقية لأدافع بهما عن قضية شعبي العادلة، ولكن عندما شعرت بإنزياح تلك القدسية والهيبة عن إسم البيشمركة، إنصرفت الى العمل الصحفي والكتابة بعد أن أصبحت في قرارة نفسي أمقت الصراع الحزبي الضيق تارة، والدامي تارة اخرى،وهناك الآلاف مثلي ممن وصلوا الى القناعة ذاتها، فبعد سقوط النظام الدكتاتوري السابق كشفت الأحداث اللاحقة تنكر معظم الأحزاب الكردية للشعارات النضالية التي كانت تخدع بها الجماهير الشعبية،وكذلك إدارة تلك الأحزاب الظهرلكل تلك المباديء التي كان البيشمركة يبذلون أرواحهم من أجل تحقيقها، حيث أفرزت سنوات ما بعد سقوط صنم بغداد ظاهرة الفساد بأشر ما تكون،فتسلطت شرذمة من أبشع مصاصي دماء الشعب الكردي من الفاسدين وحفنة من الطارئين الذين يبدو أنهم نزلوا من كوكب آخر على كردستان حيث لا تربطهم ولو شعرة واحدة بالنضال القومي وبالتضحيات التي قدمها البيشمركة طوال السنين الماضية، على مقادير هذا الشعب، وقد ذهبت تلك العبارة الجميلة مثلا وهي التي تقول ( يامن تعب يامن شقى، يامن على الحاضر لقى )؟!.


ففي الوقت الذي يعيش البيشمركة السابقون واللاحقون بالكفاف محرومين من كل متع الحياة،وتتأخر رواتبهم الشهرية لآجال طويلة،تجد الكثيرين من حديثي النعم من الحاشيات والبطانات الفاسدة التي لم تبذل قطرة من العرق وليس من الدم من أجل قضية قومهم وشعبهم، وهم يملكون أرض وسماء كردستان التي كانت الدبابات والطائرات الصدامية تلوثها بالغازات السامة ويقف بمواجهتها فقط البيشمركة؟!..


كما كرست حلقتين سابقتين من هذه السلسلة من المقالات حول الخلافات بين أربيل وبغداد، أو بالأصح الخلافات الكردية العراقية المتمحورة حول كركوك والعقود النفطية، سأكرس هذا المقال للخلاف الثالث والأخير وهو الدائر حول البيشمركة.


كان كل من الحزبان الكرديان يمتلكان الى فترة قليلة ماضية حوالي 150 ألف من البيشمركة حسب بعض التقديرات غير الرسمية، وكالعادة أرادت القيادة الكردية أن تدخل من باب إستغلال ضعف الحكومة العراقية الحالية لكي تتبرأ من تحمل نفقات وميزانية هذه القوات، فعلى الرغم من أن الحزبين كانا في السنوات السابقة من سقوط صدام قادرين على إعاشة وإدارة كل تلك الأعداد الهائلة وتدبير ميزانيتها من موارد كمركية شحيحة،أصبحتا اليوم وبقدرة قادر عاجزين إن لم يكونا متنصلين من تحمل أعباء ميزانية خاصة لها، على الرغم من إمطار 7 مليارات دولار في كل سنة على رؤوس السلطة الكردية، فاختلقوا خلافا مع بغداد حول هذا الموضوع مطالبين بقيامها بتخصيص تلك الميزانية من حصة وزارة الدفاع العراقية..


وكما يبدو فإن الحزبان لم يعدا بحاجة الى حشد كل ذلك الحجم الكبير من قواتهما، خصوصا مع وجود القوات متعددة الجنسيات في العراق التي تتولى حمايته البلاد من جهة، وكذلك لتوقيع الحزبين على إتفاقية إستراتيجية تنهي بينهما مرحلة القتال الدامي، وتتيح لهما الإنصراف الى تقاسم الخيرات الوفيرة النازلة على إقليم كردستان بعد غياب ظل دكتاتور بغداد، وبذلك فهما لم يعدا بحاجة الى كل تلك الأعداد الهائلة من قوات البيشمركة التي هي في الحقيقة لا حاجة لوجودها أصلا، لأنها أثبتت عجزها بالدفاع عن كردستان كما حصل في الفترة الأخيرة مع الغزو التركي لأراضي الإقليم، حيث بقيت تلك القوات في خنادقها من دون أية حركة، في الوقت الذي كان فيه الجيش التركي ينتهك سيادة أرض الإقليم في وضح النهار، أضف الى ذلك ما ذكرناه آنفا من أن القوات الأمريكية هي المسؤولة بموجب إلتزام دولي بالدفاع عن أرض العراق بما فيها أرض كردستان.


قبل يومين تواردت الأنباء بقبول القيادة الكردية لخطة تشكيل فرقتين عسكريتين من قوات البيشمركة في إقليم كردستان، وعلى حد ما تناهى الى علمي فإن عدد الفرقتين سوف لن يتجاوز في مطلق الأحوال عن 30 ألف من قوات البيشمركة، وهذا يعني بصريح العبارة تسريح أكثر من 120 ألف من تلك القوات، أو بالأحرى نفض اليد عنهم ليواجهوا مصائرهم، لأن هناك كما يقال إتفاق يقضي بإحالة بعضهم على التقاعد وتحويل بعضهم الى وظائف مدينة، وفي المحصلة فإن ذلك يعني فوز بغداد على أربيل بنقطة أخرى في هذه الجولة المسماة بجولة ( البيشمركة)، حيث نجحت الحكومة العراقية من إملاء شروطها وفرض إرادتها على القيادة الكردية بالإكتفاء بفرقتين عسكريتين نظاميتين بشرط ربطهما بوزارة الدفاع العراقية وليس تحت تصرف القيادة الكردية.


ورغم أنني أؤيد هذا الحل رغم كونه حلا مبتسرا لأنه سيؤدي الى تقليل رواتب البيشمركة المتقاعدين، ولأنني سبق وأن أشرت في بعض مقالاتي السابقة الى وجود نسبة من قادة وضباط كبار في قوات البيشمركة الذين تتلألأ على أكتافهم عدد من النجمات الذهبية والفضية برتب العقيد والعميد والألوية وهم لا يعرفون كتابة أسمائهم، ولكني أعتقد أن هذه الجولة أيضا قد خسرتها القيادة الكردية مع بغداد التي أصبحت نتيجة مباراتها النهائية ثلاثة أهداف ضد لا شيء لصالح الحكومة العراقية..مشكلة كركوك المائعة، والعقود النفطية المرفوضة، وقضية البيشمركة الخاسرة..
فهنيئا لحكومة المالكي ذلك الفوز الناصع والحاسم..
واللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا..

شيرزاد شيخاني

[email protected]