الحكومة العراقية مشغولة اليوم،مع مراجعها الدينية، وأحزابها المتحصنة بالإسلام السياسي ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، بقضية المهدوية، شاغلين معهم الناس والفضائيات والصحف، وكأن المهدوية هبطت عليهم في صحن طائر من الجن بحزمة من البدع والضلالات والشذوذ، وألهتهم عن منجزاتهم العظيمة، بغية حرفهم عن مسارهم السوي القويم!

بينما الأمر ليس كذلك. فالمهدوية قد انبثقت من أحشاء تركيبتهم العقائدية والسياسية القابضة على مقاليد الأمور والحكم بقوة الدين التاريخية، وسطوة مرجعياته! وتكلمت بنفس اللغة والمفردات المشبعة بالخرافات والأساطير والدفق الإيماني الغائب عن الوعي والعلم!

فرجال الدين المسيسون، شيعة وسنة، يؤمنون بالمهدي المنتظر،ويعتقدون،خلافاً للعلم والعقل والمنطق، أنه سيظهر، رغم اختفائه قبل ألف وثلاثمائة سنة! فبماذا ابتدع أو ضل أو انحرف المهدويون إذا قالوا أنه سيظهر هذا الصباح، أو ذلك المساء؟ فكل هؤلاء المتهالكين على تكوين خلطة من الدين والسياسة، وتقديمها قوتاً يومياً للناس،يرفعون أيديهم إلى السماء ضارعين ( عجل الله فرجه ) وها هم المهدويون قد عجلوا بفرجه، خاصة وإن إمارات ظهوره كما دونها مريدوه، من فساد وظلم وانحلال قد تحققت وبشكل صارخ! فلماذا جوبهوا بالرصاص والصواريخ وهدمت بيوتهم على رؤوسهم؟ وماذا، كافتراض، لو ظهر المهدي فعلاً؟هل سيواجه بالرصاص والراجمات؟ أغلب الظن أن الأمر سيكون كذلك، فالفاسدون والظالمون لن يقبلوا بمن يأتي لمحاسبتهم والقصاص منهم!

فاللعبة إذن واحدة، وكل إناء سكب من نفس الماء العكر، والدين كلما أوغل في السياسة باحثاً عن حل لأزمته في زمن العلم والحضارة،صنع المزيد من الأزمات!

فصدام قد حاول في العقد الأخير من حكمه بعد أن مني بهزائمه الشنيعة،أن ينسى مبادئ البعث التي أهلك الناس في الهتاف لها، وأن يجد في الدين السياسي حلاً لأزمته الخانقة المميتة، فأطلق الحملة الإيمانية، واستغرق في حمى بناء المساجد، حتى إنه شرع في تحويل مطار كامل في بغداد إلى أكبر مسجد في العالم، وأمر بكتابة القرآن بدمه،ووضع كلمة ( الله أكبر ) في العلم العراقي. لكن كل ذلك لم يحل أزمته بل فاقمها، حتى وصل إلى المشنقة حاملاً القرآن،ولم يجده نفعاً! وكان من نسل لعبته الدينية، هذه القطعان من الانتحاريين والسفاحين الذين لم يتبق في ذاكرتهم سوى نزعة الوحشية، وكلمتي ( الله أكبر ) يطلقونها حين يفجرون أجسادهم بين الناس المساكين! وكثيرون جرجروا الإسلام معهم على هذا الطريق الملتوي المحفوف بالمهاوي والمنحدرات والمهالك!

فشطر من الإسلام صنع، في تاريخ متأخر، الوهابية. وهي خطاب سياسي تعبوي متصلب أبعد ما يكون عن الروحانيات، وعند التقائه بفكر الأخوان المسلمين، كون القاعدة التي تعرفنا على إسلامها في قتلها لعشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال في كل أنحاء العراق،وأماكن أخرى من العالم، أبرزها تفجيرات 11 سبتمبر وكوارثها الإنسانية!
وشطر آخر من الإسلام وجد خلاصه بولاية الفقيه، فقدم ممارسة ظلامية في الحكم ما زلنا نشهد فصولها المتخلفة الرهيبة في إيران، وفي انطلاق ميليشياتها المسعورة تفترس الناس في شوارع بغداد! وقد كان تفجير المرقد الديني في سامراء التقاءً دموياً لخطاب وسيوف الشطرين على رؤوس الناس الأبرياء: فالتفجير تم من قبل القاعدة، وبتمويل ودفع إيراني كشطر أول، وحصاد الرؤوس تم من قبل ميليشيات عراقية وبتمويل ودفع إيراني كشطر ثان! وما هذا سوى تجل واحد بشع لممارسة الدين السياسي للعنف الذي سيظل ينتج أزماته، معتقداً أنه يحلها حين يصنع أزمة في السياسة، وأزمات في الحياة والوجود!

ولا يقل فظاعة عن تفجيرات الدم في الشوارع تجميد الحياة العامة في العراق، والرجوع بها القهقرى إلى الوراء مئات السنين،حيث تقتل النساء ويغتصبن لعدم ارتدائهن الحجاب،ويقتل أصحاب المهن العصرية، ويضطهد أتباع الديانات الأخرى، ويفنى الناس في معاناة يومية من افتقاد أبسط مقومات الحياة : فلا أمن ولا كهرباء أو وقود ولا خدمات ولا تشغيل للأيدي العاطلة، ولا سكن لائق ولا ثقافة صحيحة، ولا حتى أفق لنور المستقبل! بينما تقطع الطرق والشوارع بين أسبوع وآخر في تسيير مواكب الزيارات والطقوس الاستثنائية التي لا مثيل لها بهذا الزخم في أية دولة متحضرة في هذا العالم! فأي ضلالة أكبر؟ هذه أم دعوة المهدوية؟

على رجال الدين المسيسين أن يمتلكوا الشجاعة، ويقروا بان ما جرى في جنوب العراق هو ليس أزمة مهدوية وحسب، بل هي أزمتهم هم أيضاً،وإن المهدوية إذا ما مرت وطويت، وأهيل عليها الكثير من التراب والرصاص والمناظرات الفقهية، فإن الكثير من الدعوات المماثلة ستظهر وإن بوجوه وأقنعة أخرى لكنها ستمتح ماءها من نفس البئر المظلمة!

فالوضع كله أمام باب مغلق،وأمام أزمة دين زج قسراً في السياسة من أجل مصالح رجال دين ارتضوا أن يكونوا في خدمة أولئك الذين يصلون ويلطمون أمام الناس نهاراً، وفي الليل يهربون النفط، ويسرقون ويرتشون، ويستولون على ممتلكات الدولة والناس ويتمتعون بالملذات التي يوفرها لهم هذا السحت الحرام!

ولابد لهؤلاء الذين يستثمرون الدين في السياسة من معرفة أن فكرة المهدوية هي خبز فاسد من عجينتهم، ومن أيدلوجيتهم المرقعة، والمكونة من خلائط مضى زمانها، وأضحت قاصرة عن بناء بلد، وإسعاف شعب أنهكته الحروب، وفيه خمسة ملايين طفل يتيم، ومليون امرأة أرملة، ناهيك عن صنع حضارة أو اللحاق بركب الأمم المتقدمة!

إن هذه الأزمة الصغيرة ما هي إلا جزء من طفح جلدي عضالي لا يعالج بالمراهم والمساحيق، ما لم يطهر جسد الوضع السياسي كله مما ضخ فيه من دم فاسد، وما حقن به من نخاع مسرطن!

وصار لزاماً على رجال الدين المسيسين أن يقرأوا تفجر أزمة المهدوية على أنه تفجر لأزمتهم، ولا يستغرقوا بنشوة الاعتداد والإعجاب بالنفس والعقيدة، عليهم أن يفكروا بان عودتهم إلى محاريبهم والاعتناء بآلام الناس الروحية والعبادية، والعمل على تنقيتها، وجعلها منسجمة مع روح العصر، هي أفضل مهماتهم، وأن يتركوا السياسة لسياسيين يجتذبون الناس ببرامجهم وفكرهم العلمي والموضوعي الذي سيخضع لامتحان الناس والحياة.

عليهم حقاً أن يدركوا أنهم إذا لم يستطيعوا أن يوفروا الجنة التي وعدوا الناس بها،فلا ينبغي أن يدخلوهم الجحيم!

إبراهيم أحمد