لم تشهد مفردة التسامح Tolerance أي تداول يُذكر في ثقافتنا العربية القديمة، بل لم ترد اللفظة لا في الشِّعر الجاهلي، ولا في شعر صدر الإسلام، ولا في شعر العصر الأموي، وردت فقط في أحد أبيات قصيدة كتبها بشَّار بن بُرد 95 ـ 167 هـ، وذلك عندما قال: (إما تُسامحُ أو تُجامحُ ولا ثالثة لعاد)، وبعده بأكثر من قرن ونصف من السنين وردت في إحدى قصائد أبي الطيب المتنبي 303 - 354 هـ عندما قال: (ومن ذا الذي يقضي حقوقكَ كلها.. ومن ذا الذي يُرخي سوى من تسامح).
والملاحظ على استخدام هذين الشاعرين لمفردة quot;التسامحquot; أنهما يوظفانها في سياق اصطلاحي يعكس كل منهما طبيعة وثقافة المرحلة التي يعيش في كنفها كل شاعر منهما من حيث حراك التسامح واللاتسامح في المجتمع. كذلك لم ترد اللفظة في النَّص القرآني الكريم، إنما جاءت مفردات عدَّة بدلاً عنها لتعبِّر عن معنى التسامح، ومن تلك المفردات: (الصفح الجميل)، و(العفو)، و(الغفران). ولم ترد أيضاً في متون الحديث النبوي الشريف، إنما جاءت على نحو آخر؛ فقد روي عن عبادة بن الصامت أنه قال: يا نبيّ الله أي العمل أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والتصديق به، والجهاد في سبيله. فقال: أريد أهون من ذلك يا رسول الله. قال: السماحة والصبر''.
أما في ثقافتنا العربية والإسلامية الحديثة، فقد تمَّ تداول المفردة وفقاً للرؤية الغربية الحديثة التي ولد فيها التسامح كمصطلح دال على معنى مفهومي معيَّن ارتبط بمرحلة عاشها الغرب الأوروبي قبل عصر النَّهضة وبعده، حيث كان الصِدام الدِّيني قائماً بشراسة بين أقطاب الدين المسيحي المصلحين في الغرب ما دعا المسيحيين أنفسهم إلى بلورة مفهوم quot;التسامح الدِّينيquot;، ومن ثم أخذت الحاجة تتسع أكثر لتكريس مفهوم quot;التسامح الثقافيquot;، وصولاً إلى بناء مفاهيم مركَّبة أخرى أملتها الحاجة أيضاً مثل: quot;التسامح المجتمعيquot;، وquot;التسامح الحضاريquot;، وquot;التسامح السياسيquot;، وquot;التسامح المذهبيquot;، وquot;التسامح العرقيquot;، وغير ذلك من اشتقاقات المفهوم كما يتم تداولها في عصرنا الراهن.
كانت نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية المأساوية قد دعت المجتمعات في العالم إلى بلورة مفهوم التسامح ضمن مساقات فكرية ورؤى فلسفية ذات طابع تداولي تبدَّى في جملة من المعاهدات الدولية مثل quot;الإعلان العالمي لحقوق الإنسان/ 1948quot;، ولما كان النصف الثاني من القرن العشرين قد شهد الكثير من الحروب التي أدَّت إلى العنف والكره والنبذ المتبادل في أغلب بقاع العالم البشرية، فقد تمَّت صياغة quot;إعلان مبادئ التسامح/ 1995quot;، إلا أن ما جرى، بعد هذا التاريخ، من حروب دموية، وموت بشري رخيص، وخراب اقتصادي فادح وصلت ذروته في أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، والحرب في أفغانستان/ 2001، وفي العراق/ 2003، يؤكِّد الحاجة أكثر للتسامح، بل يدعو المفكرين والمثقَّفين والفنانين والفلاسفة ورجال السياسة وعمّال الإعلام الجُدد، إلى البحث عن كل السُّبل لجعل التسامح مفهوماً منتجاً في الخطابات الفلسفية والفكرية والثقافية والإبداعية والسياسية. لكن السؤال يبقى قائماً: ما هو التسامح؟
التسامح هو عدم خضوع الإنسان إلى سُلطة الشَّر في وجوده الذاتي والموضوعي، تلك السُّلطة التي تكرِّس النبذ المتبادل بين الأفراد في المجتمع، وتنزل البغضاء والعداء بين أبنائه، وتروِّج للانغلاق على الذات في تجلياتها العرقية والمذهبية والطائفية والمناطقية بما يؤدي إلى استشراء العُنف المعنوي والمادي في الوجود.
في ضوء ذلك، يمكن اعتبار الإنسان المُتسامح Liberality بأنه الإنسان الذي يعمل على تقويض سلطة الشَّر في نفسه، ويعمل على تكريس فعل الخير في ذاته، وفي حياته اليومية، ومن ثم بين أقرانه في المجتمع. وهذا يعني أن ولادة فعل التسامح عند الإنسان تتطلَّب المضي قُدماً في ثلاثة مسارات، الأول: إزالة سلطة الشَّر عن نفس الإنسان. الثاني: تعميق سُلطة الخير في نفسه ووجدانه وعقله وضميره وسرائره. الثالث: تداول فعل الخير على نحو نسقي بين الناس وفي المجتمع.
ما هو بديهي أن الإنسان في ذاته مجبول على فعل الشَّر، والشَّر بطبيعته يولِّد النبذ والإقصاء والكره والبغضاء. وهنا تلعب نظم المعرفة دوراً كبيراً في تهذيب الإنسان من سُلطة وفعل الشَّر في داخله، وتلك هي وظيفة الإنسان الفرد الجوهرية في حياته، وهي أيضاً وظيفة المجتمع، كما أنها وظيفة الدِّين والفن والفلسفة والثقافة، أي أنها وظيفة الفقيه والفنان والفيلسوف والمثقَّف في المجتمع؛ فهؤلاء المنقذون هم القادرون من خلال تعاون الفرد معهم على نزع حزم الشَّر الثاوية في داخل النفس البشرية، تساعدهم في ذلك مؤسسات مُنظِّمة؛ كالأسرة، والمدرسة، والمسرح، والتلفاز، والصحافة الورقية والضوئية، وغير ذلك من مؤسسات التواصل المجتمعي.
هذه النُّظم والمؤسسات والنُّخب المجتمعية، من شأنها أيضاً تأصيل وترسيخ قيم الخير والتقارب والتعارف والتواصل والإخاء والحب والحوار داخل النفس البشرية. وهي معنية، إلى جانب ذلك، بتوفير القدرة لدى الإنسان على تداول فعل التسامح في المجتمع، وهذه هي الغاية من صناعة الإنسان المُتسامح، وتحقيق فعل التسامح في الحياة.
منذ الحروب الصليبية التي جرت في مطلع القرن الثاني عشر الميلادي، صار العنف عابراً للجغرافيات، وكل الحروب الاستعمارية التي جاءت بعده في العالم الحديث، هي الأخرى كانت تكرِّس الشَّر القادم من وراء الحدود، ولم تختلف وضعية الحربين العالميتين الأولى والثانية عن ذلك، وها هي الحروب المعاصرة تكرر السمة العابرة للجغرافيا نفسها، ولعل الفعل الإرهابي الذي تمارسه تنظيمات quot;القاعدةquot; ومشتقاتها من الجماعات الإرهابية باسم الإسلام في كل مكان بعالمنا المعاصر، ليس سوى شكل من أشكال الحروب العابرة للجغرافيات، ما يعني أن هناك قوى لا تكرِّس التسامح السِّلمي في الحياة إنما العُنف الدَّموي، ولا ترغب بإحلال السلام في العالم، إنما الحروب والموت والتدمير الشَّامل لكل صور الحياة.
لهذا، ليس التسامح قيمة فردية أو مجتمعية فقط، إنما يأتي اليوم كقيمة كونية وعالمية تفرض وجودها مُجريات ما يشهدهُ عالمنا المعاصر من استشراء بغيض للعُنف الدَّموي القادم من وراء الحدود في كل مكان. لم يعد التسامح قيمة فردية يجب أن يضطلع بها المرء للتصالح مع نفسه فحسب، ولم يعد كذلك قيمة مجتمعية يتمكَّن المرء من خلالها التصالح مع المجتمع المحلي أو القومي الذي يعيش فيه فقط، بل صار التسامح قيمة كونية يتمكَّن المرء من خلالها التصالح مع نفسه كفرد في مجتمع أو كمجتمع في أمة أو دولة أو قارة أو ثقافة أو حضارة وبقية الأفراد والمجتمعات والأمم والقارات والثقافات والحضارات التي تتقاسم عالمنا المعاصر.
لن يكون عملنا مجدياً، نحن دُعاة حوار المذاهب والأديان والحضارات والثقافات، ما لم نؤسِّس حواراتنا على التسامح؛ فما جدوى حوار المذاهب الدِّينية في العالم الإسلامي من دون حوار مذاهب حقيقي قائم على التسامح؟، وما جدوى حوار الأديان من دون حوار أديان حقيقي قائم على التسامح؟، وما جدوى حوار الحضارات من دون حوار حضارات حقيقي قائم على التسامح؟، وما جدوى حوار الثقافات من دون حوار ثقافات حقيقي قائم على التسامح؟.
إن كل هذه الحوارات التي يصدح بها دُعاتها في كل أنحاء العالم، لا تبدو مجدية ونافعة ومفيدة، لأنها لا تؤسِّس خطابها، ولا فلسفتها النظرية والعملية، على إرادة تسامح حقيقية وصادقة؛ فما زال فُقهاء الظلام يكتبون فتاواهم بدماء المسلمين البريئة ويطالبون المسلمين بالصفح والعفو والمغفرة، وما زال فُقهاء الفعل السياسي يكتبون رؤاهم بدماء الأبرياء في الأمة والوطن والعالم ويقدِّمونها لأسيادهم كقرابين ولاء ونصرة ويطالبون الناس بالصفح زوراً، وما زال تجَّار السلاح التقليدي والنووي متعطشين لإراقة دماء الأبرياء من الناس في كل مكان ويخرجون على الناس بكلام معسول عن ثقافة الحوار السياسي والحضاري، وما زال دهاقنة الاستعمار الجُدد يخطِّطون لاستراتيجياتهم المستقبلية العدوانية على أجساد البشر في كل مكان ويطالبون المجتمعات بحوار الشعوب والأمم. لقد ولد أعداء الإنسان والبشرية هؤلاء في أرحام الشَّر، ومن الصعب زرع بذرة التسامح في نفوسهم، ولكن هؤلاء ثُلة فاسدة ومفسدة بين البشر لا غير؛ فالإنسان المتسامح هو أنموذجٌ بشريٌ راقٍ، أنموذج ممكن الوجود في القرية والمدينة، في الدولة والأمة، في العالم وفي الكون، وهذا الأنموذج هو القادر دائماً على لجم الشَّر في ذاته وبين أهله، وهو القادر على تمثيل التسامح تمثيلاً حقيقياً Real Representation من شأنه مواجهة كل الذين لا يريدون للتسامح أن يسكن الإنسان أينما كان، ويعم البشر أينما حلوا وارتحلوا.
د. رسول محمد رسول
[email protected]
التعليقات