التثقيف الجامعي في فلسطين، هو الآخر ضحيّةُ عقول لا ترى أبعد من أرنبه الأنف، عقول مربوطة بحرف الدال الذي يختصر quot;الدكتوراهquot; ككلمة تعريفية في سياقها العشائري، بينها وبين القيمة العلمية مسافة تنمو فيها نزعات تدفع بـ quot;دكاترة جامعيينquot;، محسوبين على الأدب العربي، لتكبير أسمائهم على أغلفة ومقدمات كتبٍ جامعية للاستهلاك الفصلي. والأنكى من ذلك كله أن يعزّز أحدهم كلمة الدكتوراه الحاصل عليها، بقوله أنه تخرّج على يد ثلة نقّاد القاهرة الكبار منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا. وكأني به يقول أنّ نجاحَه مُحصلة تلخيصٍ، لا نقد ومجادلة وتمحيص، آراء وأفكار أساتذته الكبار!

هذا الصنف المَحلّي العاجل من حمله الشهادات العليا الآن هو المُخوّل، على بؤسه، بأن يضعَ متطلبات اللغة العربية وآدابها في كتب للطلاب الجامعيين. ففي كتاب يدرس في إحدى جامعات قطاع غزة، تجد أحدهم يضع مبحثًا بعنوان (الفنّ القصصي في فلسطين من عام 1948- 1967) متعرّضا للإنتاج القصصي لدى عرب فلسطين الذين بقوا في أرضهم يعيشون تحت أقسى ظروف القمع والاضطهاد العنصري الصهيوني معتمدًا- للأسف- لا على دكاترة النقد المصريين- لأنّ الموضوع لا يَخصهم بشكل ضيق ومباشر- وإنما على كتاب quot;فهرس المطبوعات العربية في إسرائيلquot; حتى عام 1969؛ الذي أعده شموئيل موريه (أو quot;ساميquot; وهو الاسم العربي لهذا اليهودي الشرقي العراقي ابن دولة إسرائيل الحالية) الباحث في الجامعة العبرية بالقدس المحتلة. والذي بين الفينة والأخرى يطلع علينا بمقالات وقصائد الحنين للعراق، يكتبها بلغة، تتوسّل الدبلوماسية الإنسانية؛ فسرعان ما تكشفه العربية التي يكتب بها. حيث يفشل في الكتابة عن الحنين مجرّدًا من منطلقاته ومقاصده كيهودي قحّ هو لِصْق السياسي إن لم يكن دعامته الثقافية التي، من المحزن، أن يستند عليها واضعُ مَبحث (الفنّ القصصي في فلسطين)؛ الذي ينقل لطلابه تعليقًا لشموئيل موريه على مجموعة قصصية لقاص يدعى يحيى فاهوم بعنوانquot; الفلاحون في الأرض.. وقصص أخرى 1957quot;؛ إذ تندسّ أحكامُ الاستهداف المسبقة وتعليلات الانتقاص المقصودة؛ في أسلوب موريه الذي يرى أنّ فكرةَ الكاتب فاهوم تقوم على (تعصّبه للعروبة، وذلك بدعوته استخدام الأرقام العربية، والكفّ عن استخدام الأرقام الهندية.. وذلك -كما يعلّق موريه- لدفع الحضارة العربية خطوة فعّالة هامّة إلى الأمام للاقتراب من الحضارة ومُجاراتها)!!. فموريه بهذا التعليل والاختيار الماكر لكلماته ينال، بشكل واضح، من الحضارة العربية التي ينكرها ويكتب بلغتها ويُوهمك أنه حريص على تقدّمها واقترابها من الحضارة ومجاراتها!!! وهنا يظهر العيب كله عندما يجهل أو يقفز دكاترة جامعتنا الفلسطينية المحلية عن إسهامات الدكتورة سلمى خضراء الجيّوسي، التي تعدّ، الآن، مَرجعًا عالميّا لمن أراد التعرّفَ على تراثنا الأدبي العربي وتاريخ الفنون الأدبية في فلسطين.

إنه لمن المؤسف أن تتمثّل مَرجعية مَن يضيء على الفن القصصي الفلسطيني، في كتاب هذا اليهودي الشرقي غير البريء بنظر اللبيب؛ عوضَ أنه يصمت عن كتابة شعوره الإنساني باللغة العربية تعقيبًا على المجازر التي ترتكبها دولته التي أقيمت على أنقاض ديار الشعب الذي اقتلعَ من أرضه. فحدَثٌ جليلٌ كهذا الاقتلاع الذي مَرّ ويَمرّ به الفلسطينيون؛ في المطلق هو يُجسّد بأيّ لغة، من اللغات البائدة والحية، كلَّ ملَكَاتِ الحنين والأسى الإنساني الذي يتصاغر أمامه حنين موريه وأساه حيال أحداث quot;الفرهودquot;.

ولكن، قبل الختام، علينا أن نطلق هذا التساؤل من بوق القيامة: أين المكتسب النقدي الذي تعلّمه، بعض أساتذتنا الفلسطينيين من كبار نقّاد القاهرة؟ هل انطمسَ في دال الدكتور الدالة على أشياء كبيرة وخطيرة أهمّها الوثوق بموريه والأخذ عنه كباحث يهوديّ شرقي عراقي نزيه، أخلاقي وإنساني وخدوم للغة العربية وآدابها في فلسطين؛ وهي الصفات والمناقب التي يقف على النقيض منها اليهود الصهاينة -جنبًا إلى جنب مع المستشرقين- القادمين من أوروبا. مثلما يشير لذلك دكتور الأدب العربي في إحدى جامعات فلسطين قائلاً لطلابه الذين يَعوزهم الإعداد الأدبي والوطني الصحيح: (هذه المقتطفات التي أوردها شموئيل موريه، تدلّ على مضامين بعض هذه المجموعات، وبناء عليه نستطيع القول: إنها تدور حول معالجة الواقع الفلسطيني من الناحيتين السياسية والاجتماعية، ونلاحظ فيها التركيز على الناحية الاجتماعية، حتى لا يقع الشباب العربي في فلسطين فريسة لأخلاقيات وسلوكيات اليهود القادمين من أوروبا)!!!

نصر جميل شعث