لست معنيا بنفي أو تثبيت الإتهامات المثارة ضد العديد من القيادات ( الإسلامية أو الطائفية ) أو حتى العلمانية في اللانظام العراقي الجديد من حيث مدى إرتباط هذا الطرف أو ذاك بالنظام العراقي السابق و أجهزته الأمنية و الحزبية و المخابراتية فتلك القضية أصبحت معروفة و أضحت مستهلكة في ظل حالة التشابك الدموي الفظيع ووضعية حروب الضد النوعية الأهلية التي دمرت كل ما تبقى من عراق الماضي وهشمت الأسس المجتمعية و الروحية و النفسية للشعب العراقي بأسره بل و تهدد بتصدير الحالة العراقية الشاذة للمحيط الإقليمي المجاور!، كما أن الإتهامات المثارة حول القاضي محمد خليفة العريبي بمسؤوليته المباشرة حول إعدام عدد من المعارضين العراقيين في تسعينيات القرن الماضي من الممكن تصديقها و تسويقها أيضا في ظل معرفتنا المؤكدة بأن هنالك عدد آخر من القضاة السابقين الذين صدعوا دنيا المعارضة العراقية السابقة بالحديث عن حقوق الإنسان و الجمهورية الفاضلة التي يدعون إليها فإذا بوثائق عديدة ظهرت ثم طمرت لأسباب معلومة تثبت تورطهم في إصدار أحكام قضائية جائرة ضد معارضي ذلك الزمان؟ على المرء أن لا يعجب أبدا، و لا يمرر الأخبار كيفما أتفق، و لا يحاول إلغاء الذاكرة و المرور مرور الكرام على حقبة تاريخية طويلة كان فيها نظام البعث العراقي منفردا بالكامل في حكم العراق و متفنن في إستعمال الأساليب النفسية و الإدارية في ضبط الساحة الداخلية و تشكيل قواعد اللعبة السياسية، و القضاء العراقي لا يمكن أبدا أن يكون مستقلا و حرا لا خلال عهد النظام السابق و لا خلال حالة الفوضى الراهنة خصوصا إذا ما علمنا و تذكرنا جيدا من أن تبعيث المجتمع و الدولة في العراق قد إتخذ شكلا إلزاميا منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي طبقا للشعار الشهير الذي كان صدام حسين يردده على الدوام و هو ( كل العراقيين بعثيون و إن لم ينتموا )!! و ( العراقي الجيد.. هو البعثي الجيد )!! و غيرها من الشعارات السلطوية التي لم تكن أبدا للإستهلاك المحلي و الإعلامي بل كانت برنامج عمل سياسي و آيديولوجي تفننت الفروع الحزبية في تنفيذه و ترجمته على أرض الواقع و بالنسبة للحقل القانوني و السياسي فقد كان مقفلا للبعثيين فقط لا غير! يكفي أن نعلم بأن دخول كلية القانون و السياسة في بغداد لم تكن تعتمد على معايير الدرجات المدرسية بل تعتمد على الترشيح الحزبي من درجة نصير متقدم فما فوق؟ أي أن أجيال كاملة من المحامين و القضاة و أساتذة العلوم السياسية كانوا بعثيين بقوة القانون و بحكم الواقع؟ و الجهاز القضائي العراقي الحالي هو من إنتاج و إخراج تلك المرحلة وهو بالتالي مرتبط بكل الأحكام الجائرة و القراقوشية التي كان يصدرها النظام سواءا عبر ما كان يسمى بمحكمة الثورة السيئة الصيت و السمعة أم بالمحاكم الخاصة الأخرى و علينا أن لا ننسى حقيقة مركزية لم ينتبه لها الكثيرون وهي أن وثائق الدولة العراقية السابقة قد إختفت بالكامل ليس بسبب الإحتلال الأمريكي و الفوضى التي أعقبته فقط بل بسبب أن النظام العراقي السابق و إتبارا من نهاية عام 2001 قد أمر جهاز مخابراته بإخفاء كل الوثائق المهمة في بيوت خاصة للثقاة من البعثيين و إعداد وثائق مزورة و غير حقيقية في مقرات المخابرات و الأمن العراقي، فالدولة العراقية بأسرها من جيش و رجال مخابرات قد إختفت تحت سطح الأرض بالكامل إعتبارا من يوم التاسع من نيسان عام 2003 و حتى أطنان الوثائق التي أخذها ألأمريكيون أو الإيرانيون لم نعرف عن مصيرها و لا عن محتواها شيء أبدا، فجماعة المؤتمر الوطني ( الجلبي ) إستولت على وثائق مهمة للغاية قيل أن بعضها بيع لأطراف عربية فيما تسربت أطنان أخرى من الوثائق لإيران و غيرها؟ و لماذا نذهب بعيدا فإن التركة البعثية في العراق لم تكن سهلة و لا بسيطة خصوصا إذا ما علمنا أن قيادات إسلامية و طائفية مهمة برزت بعد الإحتلال الأمريكي كانت من العناصر القيادية البعثية الكبيرة و منها قيادات حزب الفضيلة الطائفي في البصرة!!! و هي قصة معروفة، كما أن كثير من المعممين الشباب في ما يسمى بالتيار الصدري كانت عناصر بعثية تم دسها في الحوزة الدينية خلال مرحلة ما كان يسمى ( الحملة الإيمانية ) بعد عام 1994! لا بل أن أحد القياديين الصدريين في البصرة كان راقصا و طبالا في فرقة ( قادسية صدام للفنون الشعبية ) ثم إعتمر العمامة ليتحول لواعظ و لحجة من حجج الإسلام ( فرع تايوان )!!، حجم التورط و التوريط لعديد من العناصر في ظل النظام السابق هو حجم مفجع و مؤلم و يدل على طبيعة الخراب العراقي الشامل و النظام السابق كان يعي جيدا أبعاد اللعبة و كان يستفيد من خدمات عناصره و يوثقها لذلك فإن كل الإتهامات المتطايرة حاليا من هنا و هناك لها أسسها و جذورها و إرهاصاتها الواقعية و لو تسنى لطرف من الأطراف الوصول للوثائق الحقيقية للنظام العراقي السابق فستكون فضيحة الفضائح و ستفتح جداول دم و إنتقام عراقي داخلية رهيبة لن تنطفيء جذوتها، لقد تحدثوا سابقا و بعد إنهيار المعسكر الشيوعي عن ملفات مخابرات ألمانيا الشرقية ( ستازي ) و الوثائق التي تسريت منها و أكدت على أن الزوجة كانت تكتب تقارير أمنية عن زوجها و هي نفس الوثائق التي كشفت عمل مدير المخابرات العراقية الأسبق فاضل البراك لصالح مخابرات الرفاق في ألمانيا الشرقية و حيث تم تجنيده ببساطة منذ أن كان ملحقا عسكريا في موسكو عن طريق حسناء روسية تم تصويره معها في الفراش لتكون الطعم الذي أودى برأسه فيما بعد عندما ظهرت وثائق جهاز ( ستازي )!! أما أن يكون قاضي الحاضر جلاد الماضي فهي قضية ليست مستحيلة في عراق الدم و الدموع و الغدر... ما زال الوقت مبكرا لكشف جبال الفضائح المترسبة من عهد النظام السابق فالفوضى العراقية الراهنة هي نعنة حقيقية للعديد من الأطراف المتورطة... فتاريخ الوسخ العراقي رهيب.. رهيب.. يا ولدي..!.

داود البصري

[email protected]