يٌعرف عادة اليأس من الناحية البسيكولوجية أنه إحباط للنفس وتحطيم لها وتهشيم للعلاقة ما بين الجثماني واللاجثماني والعقلي ( المادة المدركة الواعية )، تلك العلاقة التي يٌطغى عليها أكتئاب قاتم وفراغ مستبد وسلوك ممزق وإرادة تلتجئ لميثاق لاعقلاني. وإذا كان اليأس من جراء مسوغ واضح ومعين في العلاقة ما بين الفرد والأحداث أو لايتجاوز أبعاده حدود الفرد المشخص في العلاقة مابين المعين والعام، فأنني أسميه اليأس التخارجي أو المرضي ذاك اليأس الذي يهرب من أدواته و يؤدي إلى أستنزاف في الطاقة الدماغية الفردية ويضفي على الأدراك غشاوة أسميها حجاب اليأس. أما إذا كان اليأس من جراء مسوغ ينطلق كالتسارع البدائي من المجتمع نحو مفهوم الحال أو ينطلق كالشعاع الهندسي من المدني السياسي التاريخي إلى المدني المجتمعي العام فأنني أسمبه اليأس التصارعي أو اليأس الحقيقي الذي يستنزف طاقات إجتماعية معينة ويردفها في المجالات السلبية، هذا إذا أخدنا مبادئ الديالكتيك بمعناها الماكروسكوب السطحي ( الذي نرفضه ) وليس بمعناها التناقضي الحاد ( الذي نقره )..


واليأس يتمايز جذرياً عن مفهوم القلق، الأضطراب، ولايعاكس الأمل والنفاؤل إنما يترك ذلك للتشاؤم. وليس صحيحاً أن اليائس لا أمل إنما هو المتشائم الذي يفقد مقوماته. وبغض النظر عن التعاكس المتوازي مابين الحب والتشاؤم من ناحية ومابين العشق واليأس من ناحية أخرى، وإذا نظرنا إلى مفهوم اليأس من الناحية الفلسفية المحضة مستعينين بمنظار كيركجارد الخاص، فهل سنستخدم نفس هذه المعاني؟ أم أن كيركجارد منح اليأس منطوقاً جديداً، مفهوماً كيركجاردياً إن صح التعبير؟ في الحقيقة إنه منذ البداية يبتر كل الروابط مع ما ذهب إليه الخليفة الأسلامية الرابعة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لاحياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة، ويؤمن أن اليأس مفهوم وجودي عيني لأنطولوجيا الحياة حبث لايمكن تعقل حالة هذه الأخيرة إلا من خلال اليأس والألم أو شيء منهما، فلاحياة إلا مع اليأس والألم، تلك كانت ولازالت أبرز سمات الرأسمالية في جوف الوجودية والكيركجاردية. لذا، ولكي تتضح مقاسات هذه الرؤيا الصعبة ينبغي أن نلج منابع ومصادر الفلسفة الكيركجاردية..


يٌعد سورين كيركجارد بحق أول فيلسوف وجودي أبتدع إصطلاحات وجودية، تناقضات الوجود، أمكانية الوجود، مشكلات الوجود، جدل الوجود، الوجود الأنساني المحايث، الوجود الإلهي، الوجود المثالي، ظل الوجود، الوجود التافه، لذلك عندما كتب مارتن هايدجر عن الوجودية في مؤلفه ( الوجود والزمان ) عام 1927 نسبها إلى كيركجارد وأعتبره رائد ومؤسس الوجودية المعاصرة وأنطولوجيتها. وكذلك أكد جان فال أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون في مؤلفه ( موجز تاريخ الوجودية ) أن كلمة الوجود بالمعنى الفلسفي المعاصر أكتشفها كيركجارد. ويضيف فريتيوف برانت إن كيركجارد عبر بدقة رائعة فائقة عن أهم مفاهيم الوجود ( القلق، الأكتئاب، اليأس، الأضطراب، التناقض، التعارض، السلب، النفي ) وعاينها في شخصيته و شخصية والده الذي كان يعاني مثله من نوبات متقطعة من الكآبة والشعور بالخطيئة.


وفي الحقيقة حينما ولد سورين كيركجارد في كوبنهاجن ( 1813 ndash; 1855 ) كان والده في أوج أكتئابه وتعنته المسيحي، لذلك يقول كيركجارد في مؤلفه ( وجهة نظر تأليفي ) ~ لقد تربيت على المسيحية بشكل جنوني، لقد كنت طفلاً تربى بجنون كرجل عجوز سوداوي ~ لكنه لم يستسلم للعقائدية المسيحية، إذ تمادى في أكتشاف ذاته المائعة والمريضة أصلاً ( إن ما أحتاج إليه حقاً هو أن أتطابق مع نفسي ) قاصداً البحث عن الحقيقة وأكتشافها وهذه هي إحدى إشكاليات المدرسة الوجودية. ولكن أية حقيقة كان يعني؟ لقد عرفها تعريفاً هزيلاً فاشلاً ( فليس الحقيقة سوى أن نعيش من أجل فكرة. ومايهم هو أكتشاف حقيقة تكون كذلك بالنسبة لي وأن أجد نلك الفكرة التي أعيش وأموت من أجلها ). لذلك التجأ إلى اللاهوت المسيحي كغيره من الفلاسفة ( هيجل، ماركس، أنغلز ) وساير التيار التهكمي آنئذ أمثال ( سولجر، شليجل ) في كتاباتهم الرومانطيقية التي تأرجحت ما بين ( الواقع كما هو ) و ( الواقع المثالي ) أو ما بين الواقع المأمول والواقع البائس، ثم سرعان ما أنتقدهما بشدة كما أنتقد فلسفة هيجل التأملية النظرية ( لايجوز أن نخلق مذهباً، بل علينا بداءة أن نحققه ونحايثه ونعيش فيه ) دون أن يدرك البعد المفتوح في هذه الرؤيا. وهذا لن يكون إلا بالتخلي عن التجريد الذهني والبحث عن الوجود العيني المعاين، الذي ~ حسبه هذا الأخير ~ يتضمن في ثناياه أولاً وفي أشخاصه ثانياً ثلاثة مراحل أو مجالات الوجود ( الجمالية، الأخلاقية، الدينية ) ومابينهما من مرحلتين إنتقاليتين. المرحلة التهكمية مابين المرحلة الجمالية والأخلاقية، والمرحلة الفكهية مابين المرحلة الأخلاقية والدينية. إن هذه المراحل الثلاثة تشكل عماد الفلسفة الكيركجاردية وتتطابق مع الأبيقورية والرواقية والمسيحية الأكوينية الأوغسطينية تتابعاً كما هي الحال لدى باسكال.


فالأبيقورية رغم أن أسمها مأخوذ من أبيقور، يمثلها في نظر باسكال الفيلسوف مونتيني وفقاً للتصور القائم على مبدأ اللذة وهو ما يفابل المرحلة الجمالية لدى كيركجارد ( المرحلة المدنية لدى باسكال )، فالجمالي يعد اللذة كهدف سامي في اللحظة الراهنة مع المتعة الشديدة سواء كانت معنوية أم حسية. والرواقية ويمثلها الفيلسوف أبيكتيتوس بصفة خاصة وتقابل المرحلة الأخلاقية لدى كيركجارد، فالأخلاقي يتجاوز اللذة ويأخذ الحياة بمقتضى المسؤولية والواجب تطابقاً مع مقولتي الخير والشر. والمسيحية التي هي مسيح الخطيئة والألم واليأس وأتمام لدورة الكمال التاريخي يهب المرحلة الدينية لدى كيركجارد بعده الذي يتعدى مفهوم الموت و يتطلع نحو الحياة الخالدة والأمل الأبدي والحبور الديمومي. لذا، يمكن القول وبأختصار مقتضب إن الجمالي يعيش اللحظة والأخلاقي يزامن الزمن والديني يحايث الأبدية، الدهر السرمدي..


لنضف إلى ذلك، إذا كانت وجودية هايدجر وسارتر ملحدة، ووجودية ياسبرز ذات طابع إيماني عقائدي، ووجودية كابرئيل مارسيل كاثوليكية، فإن وجودية كيركجارد كيركجاردية مع طابع وأخلاق في السيد المسيح ( عليه السلام ) معتمداً على كلمات شهيرة له ( أنا الطريق والحقيقة والحياة ) وهذه الكلمات الثلاثة هي في صميمها مترادفات وجودية. لذا، كتب يقول في صحيفة الوطن عام 1855 تحت عنوان مقال ~ ماذا أريد؟ ~ ( أنا لست تساهلاً ولا قسوة أنا خلاص إنساني ). وفي رأي كان يجسد في الفعل الموضوعي مأزق الخلاص الأنساني، لأنه أنغمس في الجانب الممتلئ العيني، الأنسان الوجودي، في كل أطروحاته. وإذا كنا نرى إن جان بول سارتر قد ساير موقف هايدجر في الأهتمامات الأنطولوجية العامة في مؤلفه ( الوجود والعدم )، فأنه ساير موقف كيركجارد في مؤلفاته الأدبية أمثال ( الأيدي القذرة، الغثيان ). إلا أن كيركجارد كان أكثر إنسجاماً مع ( القلق، الأضطراب، اليأس، الذعر ) أو ما أسميه مشكل العنكبوت. فهاهو يقول ( كم هي الحياة فارغة وبلا معنى، الأنسان يدفن شخصاً ما، يتبعه حتى القبر، يلقي عليه ثلاث حفنات من التراب، وهو يعزي نفسه أن حياة طويلة تنتظره ) ( أين يكمن ذنبي؟ فلأبدأ بما لست قادراً على تحقيقه. أين هو خطأي؟ أن أجعل أنساناً تعساً ) ( أنا لست سيد نفسي ).
إلا أن هذه الوقائعية الكيركجاردية ليست منفصلة، فمجالات الوجود لديه متداخلة، وهذا التداخل قد يكون أنتقالاً مابين المراحل الثلاثة أو أختياراً فيما بينها. ولقد وضح ذلك في مؤلفه ( إما... أو ) حبث إمكانية الأختيار ما بين الجمالي والأخلاقي، فالأخلاقي يملي عليه مطلباً ثقيلاً أما الجمالي الأبيقوري اللذوي فأنه منسجم مع الطبيعة الكيركجاردية. أما في كتابه ( الخوف والرعشة ) فقد قام بتأصيل قصة ( أبراهيم وأسماعيل عليهما السلام ) على أساس أنطولوجي، حيث أن أبراهيم ( عليه السلام ) يعد قاتلاً بالنية من الناحية الأنسانية. في حين من الناحية الأنطولوجية آثر المرحلة الدينية على المرحلة الأخلاقية، أي آثر الأبدي على الزمني. وهذه هي النقطة الحرجة في الفلسقة الكيركجاردية، فالذات هي التي تقرر، تجتبي، لأنها بؤرة تجمع الوجود العيني، أنها غياب الموضوعي، أنها النفس والروح والإرادة.


في الحقيقة لم يكن كيركجارد من أنصار الفكر الكلي، لقد آثر المفكر الوجودي / المفكر الذاتي على المفكر العام / المفكر الموضوعي. وهذا هو الفرق الهام ما بين الوجود الأنساني لدى كيركجارد والوجود الكلي لدى هيجل والوجود التاريخي الأقتصادي لدى ماركس، حيث أن هذا الأخير قد أدار ظهره للمسيحية، في حين راق لكيركجارد أن يملأ جعبته من الواقع المسيحي إلى درجة أنه أعتبر المسيحية حقيقة ذاتية وهذا ما لايرضاه توماس الأكويني كمفهوم وجودي. وما بين تلك الحقيقة وأشكالية اليأس أبعاد معينة سنعالجها في الحلقة القادمة..

هيبت بافي حلبجة