سواء قبِلتَ بمصطلح (الشرق الأوسط) أم لا، فإن التعريف المذكور وجد صياغته في واقع قائم، وأمسى له ذاكرة مهيمنة، مستقرة في أذهان الناس، في هذه المنطقة وفي العالم بعفوية.
منذ سقوط الدولة العثمانية، وقبل ذلك بفترة أي منذ ظهور النزعات الكيانية في هذه الدولة حسب مصطلح باحث لبناني، شهدت منطقة الشرق الأوسط اضطرابات وصراعات دامية، وحروب ومعارك على الدوام بين أجزائها وفصائلها وجماعاتها المختلفة.
وفوق ذلك ظل التدخل الخارجي مستمراً بطرق شتى، وظل معه إستنزاف مميت يدور في شرايين جسد الشرق مما جعله مريضاً ممتداً على السرير أغلب الفترات، وسط تكاثر الأطباء حوله، وكلّ يحمل وسائله ووصفاته وتجاربه!
أزمة الشرق طويلة وممتدة في عمق التأريخ!
فالنظام (الإسلامي: القومي القبلي الفئوي النزاعي) الذي كان قائماً في هذه المنطقة، إنتقل مركز قوته من بلدٍ إلى آخر تبعاً لغلبة هذه الفئة أو تلك، حتى سيطر العثمانييون في القرون الأخيرة من دون تأسيس بنية حضارية ترفد طاقات شعوبنا نحو تطور مستقر، يؤهلها لدور ريادي على الصعيد العالمي.
الركود والإنحطاط إستمرا حتى أفلَتِ الدولة العثمانية، في الإنقلاب الكبير الذي عصف بالعالم والشرق الأوسط.
أزمة الإدارة والحكم في (الدولة الإسلامية التقليدية) تعود إلى بدايات أولية، أسست للأحقاب التي تلتها، فوضى كامنة في جوهر السياسة، تفتحت أكمامها دوماً على فضاوةٍ انضوت عفواً كمادة خام تحت السياسات المستجدة لكن القسرية، المتصلة بفوضى تداول السلطة بين المسلمين، في حروبٍ وقتال وشرذمة!
المؤامرة التي دبرتها القبائل العربية، المتجذرة في البداوة والعداوة (من أجل السلطة)، ضد القيادة العلمائية، بريادة أهل بيت رسول الإسلام وخلّص أصحابه، إستمرت لآماد طويلة تقتل خصيصتين من خصائص هذه الأمة: الإرادة (عبر الفهم السلطوي للقضاء والقدر الذي فُرض على المسلمين)، وكذلك مشروع بناء الأمة وفق أسس حضارية في جوهر متجدد وسبل التطور.
لا شك أن مراحل حضارية ومنعطفات عظيمة، سجلت كينونات مرجعية على صعيد التأريخ، كانتشار العلوم في عهد الدولة العباسية، وتطور العمران في أندلس، وإنتصارات المسلمين في مواجهات عسكرية ضد الأوروبيين بقيادة صلاح الدين الأيوبي في القدس، وطارق بن زياد في بلاد المغرب، ومحمد الفاتح في القسطنطينية وفي أماكن أخرى وفي مراحل مختلفة. لكن كل ذلك لم يؤسس لبناء حضاري متين للأجيال القادمة، لمواجهة التحديات المستقبلية التي دفعت العالم الإسلامي نحو منحدر الإنهيار، الذي احتضن الشرق في تخلف وتبعية وشرذمة وصراع وإستنزاف.
الإنهيار الذي أسس مرحلة جديدة من الخسارة وأثقال التدمير، مازالت مستمرة منذ سايكس ـ بيكو وإلى اليوم.
الغرب سجل إنتصاراً كبيراً على الشرق بعد طول تخطيط ومثابرة، وهيمن عسكرياً وسياسياً، عبر تفوق صناعي وتكنلوجي لاحقاً.
الغرب استفاد أولاً وأخيراً من التراث الصراعي الإنقسامي المشرذم بين مكونات العالم الشرقي، في فرض إرادته على شعوب وأنظمة منطقتنا مباشرة أو بكوامن مخفية.
والحال فإن الأمة التي كانت أول كلمتها (إقرأ) أمست الأكثر أميّة، يكتب تأريخها ويحلل ثقافتها رجالٌ من أمم أخرى (المستشرقون)!
والشعوب الشرقية التي تملك أكثر ثروات الأرض، وأغنى معادنها، وأخصب تربتها أصبحت تتسول من أجل الخبز، وتشحذ من الغرب السلاح والغذاء، وتجاهد بالمال والنفس من أجل بلوغ جنان أوروبا وأميركا واقفة في طوابير اللاجئين والبؤس والعار يتقطران على محيّاها!
والأمة التي كان من صلب عقيدتها نبذ الآلهة، ونشر السلام، وعمران الأرض أمست تستورد السلاح من اجل تدمير البشر والحجر في الشرق، في تخوم مرسومة بعبادة الأصنام والآلهة من الزعامات!
هذا هو واقعنا اليوم من فلسطين ولبنان، وإلى الجزائر والمغرب، مروراً بالعراق ومصر والصومال والسودان وسائر دولنا المنحطة.
خرجت فئتان من الشرق تملكان مفردات ثقافة المواجهة والنهضة. الفئة الأولى من أتباع الكتلة الإشتراكية/ اليسار، تحولت يوماً بعد آخر إلى شرذمة أخرى وذيل تبعية لقوى خارجية. فضلاً عن تحولها إلى تقليدٍ ثقيل ومبتذل فميت.
الفئة الثانية كانت ـ وهي حيّة اليوم ـ الحركات الإسلامية التي عرفت مفردات ثقافة المواجهة والنهضة، لكنها غدت أسير تأريخ موهوم، وسبل عمل وتخطيط بعيدين عن سياقات ومتطلبات الواقع المعاصر. وهذه الفئة التي إستنزفت الشرق في صراعات كثيرة، وهي مظلومة في مراحل كثيرة، من غباء أحياناً، غدت مساحة واسعة للشرذمة، ومطية للأنظمة القائمة، لتكريس ولائها لقوى خارجية، وإستمداد القوة منها للصراع مع الحركات الإسلامية وغيرها. أي أن الحركة الإسلامية المعاصرة أصبحت وسيلة وحجة لدى القوى العظمى، لإذلال شعوب الشرق وحشرها في زاوية الخوف، والإضطرابات النفسية الجماعية.
وبهذا فقد كررت الحركة الإسلامية، فورة وإندفاع القبائل العربية في صدر الإسلام وما بعد ذلك، نحو السلطة السياسية من أجل تطبيق أجندتها.
والحركة الإسلامية بدل أن توظف الأموال الطائلة التي حصلت عليها من دول الخليج، في سبيل مشروع ثقافي شامل، ونهضة وعمران في شرق تعيس، ذهبت تشتري السلاح والعتاد لقتال السوفيت والهند والأنظمة الديكتاتورية في منطقتنا، وكانت النتيجة: تحول الحركات الإسلامية إلى كينونات العنف والقتال، حتى المدان إسلامياً بسبب عيشها في جوف القتل والدم لآمادٍ طويلة. وكذلك إصابتها بالتشرذم والصراع في ما بينها، وإعطائها دفعات مجانية للأنظمة الديكتاتورية بأنها الأفضل شعبياً، من حركات همها الكبير تلبيس المجتمع زيّاً موحداً يعود تطريزه إلى قرون خلت!
والحال فإن الحركات الإسلامية، التي ترى أنها تملك الملايين في الشارع العربي والإسلامي، وهي تدعي أنها تصارع قوى الكفر وتقارع الشيطنة، لا تملك فقط عشرة باحثين متخصصين في إسرائيل وأميركا والغرب، بينما تملك إسرائيل لوحدها، أكثر من مائة باحث متخصص في الحركات الإسلامية. هذا دون ذكر الباحثين الأوروبيين والأميركيين، المتخصصين في شتى نواحي عالمنا الشرقي.
وبدل أن تستفيد الحركات الإسلامية من الجالية الإسلامية في الغرب، راحت تبحث عن أفراد بينها، لتفخيخهم بهدف تفجير أماكن عامّة، وقتل الغربيين من أجل كسب إنتصارات سياسية على ساحات القتال في دول الإسلام!
وفي الأثناء عاشت الدول الإقليمية/القومية أزماتها المستمرة وخضوعها المستمر للسياسات الدولية، في ظل صراعات دموية وقبلية وطائفية داخل الدولة الواحدة نفسها، وبين الكيانات الإقليمية على صعيد آخر.
النظام السوري في معادلة معقدة وذات جذور تأريخية، حوّل سوريا ولبنان إلى ساحات ذلّ وخراب. الأنظمة العراقية والأحزاب الكُردية ظلت مشغولة لآماد بحرق ذلك الجزء. تركيا نزفت نفسها مع الأكراد. مصر خسرت حروبها مع إسرائيل ووقعت تحت ثقال الصراعات الداخلية والجوع الفتّاك. الجزائر والسودان والصومال وبقية الدول أهلكها القتال الدموي، والجوع، والفوضى، والقروض.
ولم تعد سوى إيران كدولة قوية، بإمتداها الشيعي، عبر أذرع كثيرة في المنطقة في العراق ولبنان وأفغانستان.
وبعد دخول أميركا المباشر في أفغانستان والعراق تعقدت المعادلات أكثر.
وحتى نتجنب الإطالة، على أننا عبرنا مواضيع مهمة تبغي تفاصيل كثيرة، نوجز بلورة السياقات القادمة لمستقبل المنطقة بتلخيص شديد.
إن سوريا تشكّل حلقة مزدوجة في نشر الإرهاب في هذه المنطقة. فهي حلقة وصل بين إيران وحزب الله في تحويل لبنان إلى منطقة حرب، بهدف خضوعها لجناح مذهبي معين، له رؤيته السياسة لتأريخ المنطقة.
وسوريا من جانبٍ آخر، حلقة وصل بين الجماعات المسلحة (الجهادية) التي تدخل العراق عبرها، لتنفيذ أعمال إرهابية، وعمليات قتل منظمة ومواجهات مسلحة. وتقرّ قادة العراق، ومنها أخيراً موفق الربيعي، أن سوريا هي معبر مفتوح للذين يريدون تخريب العراق.
وسوريا نفسها اليوم تبني سياسات مشتركة مع تركيا حيال كُردستان، والعراق وأكراد إيران بقيادة (بزاك)، الذين تقاتلهم إيران وتركيا في جبهة مشتركة.
إذن سوريا هي بؤرة الشرّ المتعدد الأبعاد في المنطقة، وتحاول جاهدة تخريب الوضع في العراق ولبنان لبناء أمن إستراتيجي، للحفاظ على كيان السلطة المذهبي/العائلي.
وبالطبع فإن رأس الحيّة، حزب الله، وفق تصور الجبهات المعادية لإيران وإمتدادها، سيكون هذه المرّة أمام مواجهة مصيرية قد تقضي عليه. إن إبادة حزب الله مثل طالبان في أفغانستان، شرط ضروري لإستتباب الأمن في لبنان، وقطع ذراع إيران وسوريا هناك.
وفي هذا السياق سيكون نظام سوريا في وقت قريب، معرضاً للخوض في تجارب خاضها النظام العراقي إبان غزو الكويت. الحصار الإقتصادي، المحكمة الدولية، دفع الأكراد والمعارضة لفتح جبهات قتال مع النظام السوري، يصبحن أموراً ملحّة للإطاحة بهذا النظام، الذ ي يوفر أمناً سياسياً ولوجستياً لإيران. النظام السوري قد يكون الضحية الأكبر، في المعادلة الجديدة، لعزل إيران وتحجيمها. وعليه فإن سوريا مقبلة على تقسيم ضروري إلى أربعة أجزاء جغرافية متباينة: المنطقة الكُردية شمالاً، ومناطق العلويين على طول الساحل السوري من جهة الغرب، ومناطق الدروز المتاخمة مع حدود إسرائيل، فضلاً عن المناطق الداخلية للعرب السنّة.
الأحداث الأخيرة في العراق، بعد الهجوم العنيف للحكومة على التيار الصدري، الذي يستمد دعمه العسكري من إيران، تشكل بداية القضاء على التدخل الإيراني في العراق، خصوصاً بعد إستياء تيارات وقيادات شيعية حكومية من الهيمنة الإيرانية، الممزوجة بمشاعر قومية عنصرية.
وعلى الصعيد العربي تعاني مصر أزمة غذاء حادّة أثارت حنقاً شعبياً شديداً، قد تدخل هي في سياقات هذه الأحداث بتدخل عسكري، تحت غطاء دولي/ أميركي في الشأن اللبناني، وبمباركة عربية وخليجية، للحدّ من المدّ الإيراني الشيعي.
وعلى الصعيد الكُردي، لولا تخاذل قادة الأكراد وتخلفها على الصعيد السياسي، وخفتها وعمالتها لإيران (كشفتها أميركا عبر عملائها الأكراد داخل الحزبين الحاكمين)، لكانت الدولة الكُردية قد قامت منذ مدة، للإعتماد عليها في تطبيق أجندة أميركا والغرب في هذه المنطقة. لكن القيادة الكُردية لم تسع على الإطلاق في سبيل ذلك، والأحزاب الكُردية فضلاً عن تخلفها وفسادها، ظلت مصالحها تتمحور حول تأمين الأمن والمال لمسئوليها، دون محاولة حقيقية لبناء مؤسسات دستورية، وأرضية دولة مستقلة. هذا الواقع عطّل الخطة الأميركية إلى حدٍ كبير، خصوصاً في ظل صراع معقد ومتشابك بين حزب العمّال الكُردستاني القوي، وتركيا حليفة أميركا وإسرائيل، في حكومة (إسلامية) جديدة لها أجندة شرقية مع إيران وسوريا، تختلف بالضرورة مع مصالح أميركا وإسرائيل على أصعدة معينة.
ولكن جورج بوش قبل ترك ولايته الرئاسية، قد يشن هجوماً قاضياً على حزب الله في لبنان، والنظام السوري.
وإذا تمكن التيار الصدري من تنظيم نفسه مثل حزب الله اللبناني، وأمّن دعم إيران الإستراتيجي، لا يُستبعد أن يعلن دولته في جنوب العراق.
ولكن وبما أن الإحتقان والصراع المذهبي السنّي الشيعي، يحتد ويشتد يوماً بعد آخر، فإن مواجهة شاملة بين السنة والشيعة في عموم المنطقة، ستكون أمراً ممكناً وحيوياً لتأمين أمن إسرائيل، ومصالح أميركا الإستراتيجية.
وفي هذه المعادلة فإن قيام دولة كُردية يظل قائماً، شريطة إيجاد بديلٍ للحزبين الكُرديين المواليين لإيران، وإلى حدٍ ما سوريا وتركيا، في تجربة تأريخية طويلة، مما يعني أن أميركا لا تعتمد عليها في تدبير سياساتها في الشرق الأوسط.
قد يكون برهم صالح مرشحاً، إذا ما كان يفكر بذلك، لتشكيل حزب كُردي بديل للإطاحة بالحزبين الحاكمين، الذين خسرا كلّياً شعبيتهما وسط الأكراد، فيما يتمتع برهم صالح بشعبية واسعة جداً، قد تكون ذات أغلبية ساحقة.
وعلى صعيد لبنان، لا يمكن بعد اليوم إجراء أي حلّ لأزماتها، إلا بعلاج حزب الله على الطريقة الطالبانية في أفغانستان.
وفوق كلّ ذلك، كما قلنا سابقاً في مقالات عدة، أن حرباً إقليمية كبيرة بين هذه الدول ومراكز القوى، ستكون نتيجة حتمية لإفرازات السياسات والوقائع الماضية والآنية، الممتدة من تأريخ طويل هزيل ومحبط، يمتلأ بالشقاق والصراع الذي لم ينته إلى يومنا الحاضر.
علي سيريني
التعليقات