طيلة الأعوام العشرة الأخيرة لم يتوقف العديد من الكتاب الليبراليين الغيورين على لبنان عن تناول مسألة شرعية سلاح حزب الله.. فحذر الكثيرون من خطورة تمتع الحزب بقوة مسلحة موازية للقوات المسلحة الشرعية المنوط بها الدفاع عن لبنان وحدوده. بل وبلغ الأمر بالعديد من الكتاب إلى الإعراب عن تشاؤمهم حيال مستقبل لبنان ووحدته طالما بقي حزب الله مسلحاً مقاوماً للشرعية. تفاوتت ردود الأفعال اللبنانية والعربية على نبؤات الكتاب الليبرالين، وإن اتسمت غالبية الردود بالبلاهة والسذاجة وعدم الإحساس بمدى قتامة الصورة. ولكن هذا لم يمنع البعض من الإعراب عن مخاوفهم من التنامي المستمر لقوة حزب الله على الساحة اللبنانية.
كان الطُعْم الذي اعتاد حزب الله إلقائه لاجتذاب الرواد واكتساب التأييد وإسكات الأصوات المعارضة هو طُعْم المقاومة أو مقاومة quot;العدو الإسرائيليquot; القابع على الحدود الجنوبية للبنان. ويا له من طُعْم نجح في اجتذاب كل المهووسين بعداوة الدولة العبرية من دعاة القومية العربية ورواد اليسار الراديكالي وجهابذة الإسلام السياسي. لم يحتكم كل هؤلاء وأولئك للعقل لتقييم شرعية وجود حزب الله كقوة مسلحة في بلد خرج لتوه من حرب أهلية. وهم لم يلجأون أيضاً للمنطق الذي كان يتوجب أن تلتزم القوى اللبنانية بالحسابات الدقيقة التي أثمرت عنها اتفاقات الطائف.
لقد كانت غايتهم وهي مواجهة إسرائيل مبررة لأية وسيلة كانت، حتى وإن كانت تحدي حزب الله للشرعية وامتلاكه للسلاح.
غير أن رؤية حزب الله للأحداث في جنوب لبنان لم تكن متماشية مع الرؤية الساذجة لكل من ساندوه من العرب والمسلمين في مهمته الإلهية في مقاومة إسرائيل. فقد كانت مقاومة الحزب الوهمية لإسرائيل عبر إطلاق الصورايخ الخائبة على شمال إسرائيل مجرد أداة سياسية لسحب البساط من تحت أقدام القوى اللبنانية الأخرى تمهيداً لامتطاء جواد الحياة السياسية في لبنان. لم يساوروني الشك يوماً في أن لعبة إسرائيل التي لم يتوقف حزب الله عن استخدامها في الضحك على ذقون السذج لم تكن سوى خطوة لتثبيت الأقدام في الشارعين اللبناني والعربي في طريق الانقضاض على لبنان.
فقد كانت تحركات ومناورات قادة حزب الله تعكس رغبة واضحة في السيطرة على مقدرات لبنان وتغيير خارطة توزيع السلطة السياسية في هذا البلد.
لم يكن تحدي حزب الله للشرعية اللبنانية وليد الأحداث الأخيرة، بل أن لمقاومة الحزب للسلطة اللبنانية تاريخ طويل يعود إلى تاريخ نشأة الحزب قبل عقدين ونيف. لم يتوقف الحزب منذئذ عن ممارسة أنشطته بمنأى عن السلطة الشرعية في لبنان. فقام الحزب بتهريب السلاح عبر الحدود السورية بغرض ممارسة حرب العصابات ضد إسرائيل، وقام بلعب الدور المنوط بالقوات المسلحة اللبنانية في الجنوب اللبناني، ومنع السلطة الشرعية من ممارسة دورها في المناطق التي سيطرت عليها قواته، وقام بفرض أجندته على الحكومة فيما يتعلق بأمن وسلام الجنوب اللبناني، وقام بتعريض لبنان لمخاطر حرب مدمرة مع إسرائيل طوال السنوات العشرين الماضية.
يتحمل اللبنانيون مسئولية الحال الذي وصلت إليه الأمور في بلدهم. فهم الذين صنعوا مجد حزب الله المزيف. فقد زايد معظمهم على وطنية الحزب الكاذبة رغم أن ولاء قادة الحزب يوماً للبنان، وإنما لأسيادهم في دمشق وطهران. كما زايد اللبنانيون على الدور المزعوم الذي قيل أن الحزب لعبه في تحرير جنوب لبنان، على الرغم من أن انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني كان وفاءً لوعد انتخابي قطعه على نفسه إيهود باراك قبيل انتخابه رئيساً لوزراء إسرائيل. وكذا لم يسع اللبنانيون، بمختلف طوائفهم، لمواجهة نفوذ حزب الله حين كان بالإمكان تحجيمه، بل أن عدداً كبيراً من السياسيين اللبنانيين، وعلى رأسهم الجنرال عون، ساروا في ركب الحزب مهللين لما أسموه quot;نجاحاتquot; الحزب.
دفع اللبنانيون جزءاً من الثمن الباهظ لوجود حزب الله حين دمرت إسرائيل البنية الأساسية للإقتصاد اللبناني في حرب تموز 2006 قبل أن تتوالى الاحداث الساخنة في لبنان التي كان حزب الله شريكاً أساسياً فيها، وهي الأحداث التي تمخضت عن حالة عدم الاستقرار الأمني التي أودت بحياة العشرات من الصفوة اللبنانية، وقادت لحالة الفراغ الرئاسي في لبنان.
إلى أين ستقود الأحداث الحالية لبنان؟ هذا هو السؤال الذي يبحث المحللون السياسيون عن إجابة حاسمة له. لا شك في أن التفاؤل لم يعد له أساس يستند عليه. فلم تعد هناك أسس للحوار مع قادة حزب الله بعد الأحداث الدامية المؤسفة التي قام بها رعاع الحزب في بيروت الغربية وقيامهم بإغلاق طريق المطار رداً على قراري الحكومة المبررين بإحالة قضية شبكة الإتصالات للقضاء والتسريع بالتحقيق في موضوع كاميرات المراقبة بالمطار. لقد كان ما قام به مسلحو حزب الله مدبراً ومخططاً لإرهاب الحكومة اللبنانية القائمة بتصريف الأمور اليومية للشعب اللبناني، ولإعلان عدم خضوع الحزب لأي سلطة كانت في لبنان.
ولقد عكست شراسة الرد التلفزيوني للسيد حسن نصرالله زعيم الحزب الخارج عن الشرعية والقانون على قرارات الحكومة مدى الأزمة التي تواجهها لبنان حالياً. فقد هدد نصرالله الحكومة بالقبض على رجال الحكومة إن حاولت القبض على رعاعه، وبقطع يديها إن حاولت الضرب على أيدي العابثين بأمن لبنان من زبانيته. ولقد كان مؤسفاً أن يبدو زعيم الأغلبية النيابية سعد الحريري في كلمته الأخيرة التي وجهها لزعيم حزب الله حسن نصرالله مستجدياً للحوار والسلام والأمن.
يبدو أمر استرجاع حزب الله للحظيرة السياسية اللبنانية أمراً مستحيلاً في ضوء التصلب الأيديولوجي للحزب. وبالمثل يبدو الأمل في إحلال السلام بلبنان أمرأ مستبعداً طالما بقي حزب الله محتفظاً بسلاحه الذي يقاوم به الشرعية اللبنانية ويهدد به سلام الوطن وأمنه ووحدته. ولأن مهمة نزع سلاح الحزب تبدو مستحيلة بعدما تعاظمت قوة سلاح الحزب وأصبحت تناطح القوات المسلحة اللبنانية، فإن لبنان يبدو على أعتاب نفق داكن ومظلم لا يعلم أحد إن كان هذا البلد قادراً على الخروج منه سالماً موحداً أم لا.
ولعل الحل الأنسب للأزمة الراهنة برأي الكثيرين يكمن في مساعدة المجتمع الدولي للبنان عبر التعامل فوراً بقوة وحزم وصرامة مع نظامي دمشق وطهران اللذين يقوما بدعم حزب الله. فإذا كان السيد نصرالله يهدد اللبنانيين بقطع أياديهم إذا ما حاولوا قطع أيادي مخربي حزب الله، فإن ذلك ربما يعطي اللبنانيين الحق في أن يطالبوا المجتمع الدولي بالمساعدة في قطع الأيادي التي تدعم حزب الله في خيانته للبنان حتى يتوقف الحزب نهائياً عن مسيرته التخريبية في لبنان. وإذا كان موضوع التدخل الدولي مستبعداً حتى ما قبل الأحداث الأخيرة، فإن إعلان السيد حسن نصرالله الحرب على اللبنانيين ربما يدفع بالكثيرين لإعادة التفكير بكيفية الرد بصورة مناسبة على حزب الله.
وكل ما أتمناه في النهاية هو أن يتحلى اللبنانيون بأكبر قدر من الصبر وضبط النفس في التعاطي مع خيانة حزب الله لوطنهم وذلك حقناً للدماء وحفاظاً على الوطن من حرب أهلية جديدة.
جوزيف بشارة
[email protected]
التعليقات