ظل الإعلام الشرقي ذيلاً تابعاً للسياسة والسلطة في عالمنا الشرقي، منذ تأسيس أولى مآذن الإعلام بمصر وأمصار الشام، والولايات الأخرى في بلاد العرب والمسلمين. ورافق التبعية المذكورة إستثناء مطوّق ومحاصَر، ومكبّل بسلاسل فردانيّة السلطة، وأهوائها ورذائلها.


الإستثناء المحاصَر نحى بنفسه من أيمن السلطة إلى أيسر التخوم، حيث الملأ من ضعفاء الطاقة، وخرساء الألسن، يريد إنذارهم من الشر وتبشيرهم بالصراط المستقيم. لكنه أمسى وحيداً يتجرع همّ الزمان ويلوب حول النوازل والمآسي في الإنهيارات التي عصفت ببلاد المسلمين.


ظل هذا الطرف ضعيفاً في النشر، وخجولاً في قول الحق، قصيراً في إبلاغ الأنباء والأحوال إلى أسماع الناس، محدوداً مكدوداً يعيش في كمد.


والتفريق والشرذمة والإنقسام ظللن رواكد في مساحات الشرق وباحاته. وانقسم الإعلام إشتقاقاً من تلك الرواكد المجدلة من الإنقسام والتفريق ذاك.


وغطى غبار الفوضى والإستبداد والخنوع الثقافي للسلطات المستبدة، لقاء الشهرة وبريق المال، منابر الحرية ومصادر الكلمة الصادقة الورعة.


وحشر الإعلام بالكليّة نفسه تحت إبط السلاطين وأذيالهم وجداولهم. وإن كان من شأن هكذا إعلامٍ نشر بعض الرأي السديد لأعلامنا ومثقفينا، لكنه أمسى قرينة لستر العار، وحجة لدحض إتهامه بالخنوع، والميل عن شأن الأنام وأثقالهم بصرف النظر عن الكوارث إلى إحصاء نِعَمِ (القائد المغوار).


ومن هذه الأحوال ساد اليأس، ومال الجمع إلى الطمأنينة بالهزيمة، قدراً محتوماً على الصرف، لا يحدوه الأمل من اي ثغرٍ وقد تناكبت الأبواق متفرقةً تصطفُ خلف عباءات السلاطينِ والملوك الذليلة أمام العدى، كملوك الطوائف بأندلسٍ، تستجدي بقاتلنا إسناداً على الأنداد من المتخاصمين في ديارنا، على اللقمة والتخوم من العرش.


صحائف الإعلام أسرفت في إهدار الكلام، تطبيلاً للمعاش النازل من العروش، تنفخ الكروش خلف طاولات الذلّ تزدان بالفضفاض من الكلام والمائع من الرأي، والهابط من الفكر، لا شأن لهن في غوث الإنسان في نوازل الدهر ومكائده.


وفي المنفى لملمت سواعد سلطاتنا الهابطة أوحال الهزيمة، تحت أقدام من أنزلوا ألوان العذاب والذلّ فوق رؤوسنا في ضحكة وإبتسام، شتاتاً مهزوزاً من بعل الصحائف، أدركوا عاجلاً مهنة الإسترزاق والقبض على أسدال الشهرة، فتصدوا يهرعون لاهثين لإحكام مفاصل وكواعب بنيان الإعلام.


وأي إعلامٍ (سطا فوق أسواره صعاليك القوم، بالندرة تجد بينهم صادقا)، يملأ جوانحنا نتناً وقيحاً لا يكفي شفاؤنا منه، ولو تقيأنا لقرنٍ من الزمان.


ولكن حمداً لله الذي أبصرنا وأهدانا سبيل الرشاد، أن عباد الرحمن هم الّذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراما، وإذا اعترضتهم مقالات الجهل قالوا سلاما.


إفترقنا على اليأس والهوان نذوب في المدى بحسرةٍ، وخرج إلينا مِن تحت أنقاض الإنهيار من يقول بموت لغة الضاد، وإنتهاء باع العرب في الزمان المستجد من لغة العصر، وفناء سفنهم في ميناء الحضارة والزمان.


حتى علت راية إيلافٍ خلف تخوم بلاد أندلسٍ وقسطنطينية وأبعد منهما، أن جامعة العرب على مائدة اللغة والإعلام، ليست بالمستحيل، كما استحالت في السياسة على الوحدة في قمم الذلّ بين ملوك الأقطار/الطوائف، وأن بقية خيرٍ تظل قائمة أبد الدهر، وأن ضاد إيلافٍ سيجمع شتات أقوامنا دون دعوة عنصرية لفرض العروبة وعنفوانها، ولا إنكفاءً بإستعلاء الشعوبية وصولجانها، أو شدّ عصب الدماغ إلى مذهبٍ دون المذاهب على إختلاف ألوانها.


وإن الفضل في كسر التقليد، والثورة على اليأس، والتجديد في الإعلام غير مسبوقٍ بمثله منذ قرنين، أي منذ تأسيس الصحف، يعود إلى فطنة العميّر عثمان، ورجاحة عقله، وجيشه المتجانس الراشد، الحريص على السهر في إطلاعنا على شؤون هذه الأمة من الأقوام والملل والنِحل.


والفضل في ذلك كلّه لله العلي القدير، الذي شاء أن يكون عثمان في الإستثناء السالف الذكر، الّذي أخذ لنفسه يسار الميدان، وشرايين الدم في قلبه تستمد البقاء من أحشاء المعدومين والفقراء، والذين طمست جدران الواقع صراخات شكاويهم، وآهات آلامهم، وأنين بكاءاتهم.


لذلك فلم تخشع إيلاف أبصارها لرهبة السلطان وسيفه الصقيل، ولا لترغيبه وماله الوفير، المقطوع من أفواه الناس يُدفع لبناء أسوار من البشر حول العرش، وتزيين سرجه وخرجه مزهوّاً بامتطاء ظهورنا، والمشي فوق شوارع صدورنا أثقبتها أسنّة رماح الهول والحرمان.


فخرج جنود بسلاء من المثقفين والكتّاب، من كلّ حدبٍ وصوب في عالمنا المترامي الأطراف، من قيروان وقرطبة وإلى بلاد الشام والحجاز، مروراً ببلاد الروم والفرس والكُرد، وإلى حيث تصدعت كلّ جدران الأرض المانعة لوصول الحقيقة إلى آذان الخلق.
خرج الجند يبنون ويحرثون في أرضٍ لم تلد ـ كما قال أحد الشعراء ـ أمطارها بعد. ويحفرون لأسوار لم تشيّد حصونها بعد. وكثرت في أقطارنا عيون ساهرة في رباط الحقيقة، يخبروننا ويكتبون أحوال الأنام، ويحللون شؤون العصر وشجون الأيام.

على أن إيلاف ليست فحسب متراساً لنا قبالة جيوش الذلّ والهوان والظلم، ولو كان ذلك جوهر عملنا، ومبتغى آمالنا في تحقيق النصر بالكلمة. لكنها إلى ذلك صحيفة راحة لسلالة زرياب من الذين مالت أهوائهم إلى الطرب واللهو والقيان، يتبارون في أسواق الفن ترويجاً لبضائعهم، ونيل المرام في بلوغ الرغد من المقام.

أمّا في عامها السابع، وما مضى من عمر إيلاف من الأيام في ريادة إعلام العرب، فتوفيقٌ لم يتزعزع لصعبٍ، أو مشقةٍ أو ترغيبٍ أو ترهيب.


وما دامت كلمات بمرتبة أسنّة الرماح تُرمى نحو أحداق الظالمين، وسهام قول الحق تجاه صدور المجرمين، من المستحكِمين بأمور بلادنا، فإن إيلافاً مازالت على الخير لم تنقض عهد الميثاق الذي ألزمت به نفسها، أن تكون منبراً طاهراً لقول الحق، وأفقاً صافياً لعرض الوقائع، دون زيف أو تحوير أو تلبيس ألوان.

إيلاف الآن سيدة الإعلام في الشرق، تنقصها محطة التلفاز بعنوانها، لتكون في تلك رائدة كما هي في هذه.

وبألوانهم وفسيفسائهم وتنوع إنتماءاتهم، أصبحت إيلاف للشرقيين جميعاً مائدة الإجتماع، بنت بينهم جسور الإلتقاء والحوار، وأخرجت أصوات كاتمة في زوايا الظلمة والنسيان إلى الوجود، تلامس عن قرب أسماعنا وخفقان القلب. وبذلك أصبحت إيلاف أجمل جوهرة الشرق، وجب علينا الدعاء لها بالإستقامة على الرشد، والهدي بالحق، والحفظ من الزلّات التي مالت بأخريات عن جادة الصواب، فيممت راكعة إلى أبواب القصور تنشر ما يسرّها، وتخفي ما يبغضها في تجاوزٍ على الحلال والحرام، غير آبهة بما يختلج في صدر هذا أو ذاك من فوران غضبٍ، أو عتاب شاكٍ، أو ينبوع فكرٍ نقي.

إيلاف صحيفة مستقرة في نفوس الشرقيين على إختلاف ألوانهم ومذاهبهم، بلسانٍ عربي مبين.
والريادة سلّمت مفاتيحها إليها، دون عناء الطلب أو الإدعاء من شططٍ، فيما أخريات يجهدن في بلوغ صدارة الشهرة وهي لا تطاوعهن في كسبٍ، غير ما يملك أحدنا إذا ولج إصبعه في اليّم.

وإذا استمرت إيلاف على منوالها القائم، فهي بذلك تؤسس لصرح شامخٍ، لنا فيه عبق التأريخ من ماضٍ تليدٍ مجيد في أندلسٍ وبغداد، وغيرهن من حواضر المسلمين في هذه الأصقاع.


وبلوغ المجد ليس من المستحيلات التي سهلت أسبابها عن منطقٍ. فإن علت الهمّة، وعزم القلب، وقاد العقل، فإن بلوغ العلياء يصبح في راحة المشوار في سهلٍ مطواة.
ألا فلتكن إيلاف بندوتنا لدار مجدِ.

علي سيريني
[email protected]