تدسّمت أجسادُ فطريات التطرف، وأصبحت تنمو على البقع والمستنقعات المنتشرة عربياً، ففي كلّ دولة عربية ميليشيا فكرية أو حربية تمارس أبشع الأدوار الظلامية، ففي فلسطين تقوم حماس بأدوار مشبوهة ذات مغزى غير وطني وحماس ميليشيا سنية لكنها اندغمت في سياق المشروع الإيراني الذي يوظّف كل من هبّ ودبّ من أجل تحوير المسار السياسي في المنطقة لصالح quot;الخنجرquot; الشيعي، ولعل التحالف هذا جدير بالرصد وهو ما فعله الكاتب عبد الرحمن الراشد في مقالته المميزة المنشورة في الشرق الأوسط تحت عنوان (إيران، زعيمة الحركات السنية-عدد 10795) وهذا ما حدث بالفعل فالحركات السنية المتطرفة التي تكفّر الشيعة في أدبياتها الفكرية،تتحالف الآن مع رؤوس النظام الشيعي في المنطقة، فهم ينظّرون للتحالف مع quot;الشياطينquot; من أجل كسر خشم إخوتهم في الوطن، وهذا هو عيب القضية الفلسطينية التي بدأت شعبيتها تتراجع في العالم العربي، نظير ارتزاق متصاعد يقوم به بعض النخب السياسية من أجل تحقيق مكاسب ذاتية، فالفساد التاريخي الذي دخل في جسد القضية الفلسطينية، حوّلها إلى محتوى نضالي وشعري، وفرّغت القضية من مضمونها وأصبحت مجرّد صفقة في جيوب السياسيين الفلسطينيين، الذين أصابونا بالصداع من كثر ثرثرتهم عن الحقوق وكل مفردات quot;الحقحقةquot; بينما هم مجرد حفنة من المرتزقة الذين اختطفوا قضية أجيال، وارتزقوا على حساب قضية كانت هي حديث العرب خلال النصف قرن المنصرم.


في الخليج الآن تنشط هذه الفطريات، ففي الكويت تقود الكتل الإسلامية قطار التشريعات إلى الخلف، وأصبح الكويت الذي كان مضرب المثل في التنوير في الخليج، الكويت الذي عرفه العرب من مجلة العربي وعالم المعرفة، وفعاليات الثقافة التي لا تقف، الكويت الذي احتضن الفيلسوف عبد الرحمن بدوي والدكتور فؤاد زكريا وطبع وترجم عيون آداب وفلسفات العالم يمسك بمنابره الآن شلة من العاطلين عن العمل الذين يريدون إرجاع البلد إلى الوراء، ويتصدر قنواته الإعلامية وبرامجه مجموعة من الجهال الذين يتمسحون بمسوح الدعوة، ويقترحون اقتراحات بهلوانية تنبئ عن تأزم فكري، وعن خراب يجترح quot;المخquot; الذي يسير تلك العقول التي جاءت إلى المجلس النيابي على قاطرات التوبيخ المستمر، والارتزاق والتمسح بالدين.


أما في السعودية، فـquot;النبأ الصاعقةquot;، الذي أعلنتْه وزارة الداخلية قبل أيام عن القبض على 700 إرهابي، بقدر ما هو مفرح كإنجاز أمني هام واستثنائي، غير أنه مؤلم من جهة العدد الكبير الذي يعتنق تلك الأفكار التدميرية، ذلك أنه يبين كم أن الأمن الميداني ينجح بينما الأمن الفكري يخفق، وشخصياً أعرف أن quot;ادعاء مكافحة الإرهابquot; أصبح بالنسبة للبعض الدجاجة التي تبيض ذهباً، لكن كيف تحوّل الإرهاب إلى مشروع استثماري وتجاري وإعلامي ووجاهي؟ وهل فعلاً هناك من يكافح الإرهاب فكرياً في السعودية؟


هناك أناس لم يكونوا قبل الإرهاب شيئاً مذكوراً، لكنهم ركبوا موجة مكافحة الإرهاب، وهم حفنة من صغار المرتزقة الذين باعوا ضمائرهم في سوق نخاسة رخيص من أجل تحقيق مآربهم الذاتية، عبر الرجوع تارة إلى الوسطية وأحياناً إلى السلفية وتارة إلى التنوّر التكتيكي، وذلك فق الأهواء التي تملى عليهم أو وفق الإشارات التي يتلقونها من هنا وهناك، فبينما هم يدّعون أنهم يكافحون الإرهاب، يمارسون الدسائس ضد مجايليهم وضد من يكرهون من الناس، فيحرّضون ضدهم في وظائفهم وأماكن رزقهم، كما استخدموا حجة مكافحة الإرهاب من أجل الانتفاع بالمساحة التي أعطيت من المسؤولين والإعلام -عن حسن ظن بهم- فحفروا لغيرهم ورسموا طوق النجاة لذواتهم وأنفسهم، كما أن بعض هؤلاء الأدعياء هم من المتطرفين فكرياً، فبعضهم يحيك الأحابيل ضد كاتب في جريدة لمجرد أنه يختلف معه، ثم يذهب إلى بيته ويرتزق من quot;مكافحة الإرهابquot; فيبتزون المخلصين من المسؤولين من أجل الانتفاع بهذا العمل، الذي تحوّل إلى دجاجة جاهزة تبيض لهم الذهب، بعضهم صعد على هذا السلّم، فبعض من يكافحون الإرهاب يكفّرون الشيعة وكل الطوائف، ويكفرون الليبراليين والعلمانيين، وتمتلئ قلوبهم بالحسد، وترى آثار الحسد على وجوههم من شدة الكدر والضيق أن تفتح لك مجالات للتعبير لم تفسح له، أو فسحت له ولكن ليس لسعة اطلاعه أو فكره وإنما لسعة ارتزاقة وتسوله ومنافعه، فيستفزهم أي جهد تقوم به، ويحرضون ضد قراء الفلسفة وذلك لضعفٍ شديد في عقولهم فبعضهم لم يقرأ في حياته سوى بضع كتيبات تافهة رخيصة الثمن، وحينما يعجزون عن فهم الشيء يحرضون ضده، قد أستطرد في هذه النقطة، في كتابة أخرى، وفي ظروف أخرى، حينما تترسخ بعض هواجسي وتصدق بعض تحليلاتي.


لعل من أبرز أسباب النزوع اللفت عربياً نحو الخرافات والأباطيل والسحرة والمشعوذين والدعاة والخرافيين هو الفراغ الداخلي الذي يصبغ المجتمعات حينما يسيطر الفقر، وتنتشر العاهات والإعاقات الذهنية، وحينما تعجز السياسات عن تأمين العيش الرغيد للناس والمواطنين، كما أن بعض المرتزقة بالدين يحرضون ضد نقاد الإرهاب، مما يضطر بعض نقاد الإرهاب من المخلصين إلى التوقف أو الهروب إلى بلد آخر يأمن فيه على نفسه وفكره، إن العيش في بلدان تنتشر فيها الغربان غاية في البشاعة والشناعة، حينها يضيق الوطن ويتقلص، يتحول إلى أغنية هائمة تتمتم بها بينك وبين نفسك، وأنت تنشد في داخلك الهروب الأخير، حينما تضيق ببلد يعاني من العاهات والفقر والخرافات ويسيطر على منابره حفنة من العاطلين عن العمل الذين لا يتعبون من الارتزاق، والتسوّل، والادعاء، ويخيفهم أكثر ما يخيفهم الناقد الانتحاري الذي لا يملك ما يخسره فينتقدهم بوضوح ويقع على المناطق الحساسة من تفكيرهم وهواجسهم ونواياهم وحقائقهم فيصيبهم الرعب والهلع، لكن الناقد الحقيقي هو الذي لا يرفّ له جفن ولا تهتز من جسده شعره ويكشف عن كل البؤر المنتنة في كل وقت، وعلى كل حالة، وعلى حد تعبير محمد الماغوط:
quot;طالما عشرون ألف ميل بين الغصن والطائر
بين السنبلة والسنبلة
سأجعل كلماتي مزدحمة كأسنانٍ مصابة بالكزاز
وعناويني طويلة ومتشابكة كقرون الوعلquot;.

فهد الشقيران
كاتب سعودي
[email protected]