تباينت ردود الأفعال على مفاجأة لجنة نوبل النرويجية للسلام، والتي قررت في الوقت الضائع، منح جائزتها لهذا العام إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما، تكريماً لquot;جهوده الخارقة التي بذلها الرجل بغية تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوبquot;، على حد اعتقاد القائمين على شئون اللجنة.

جواباً على السؤال المطروح بخصوص quot;الجائزة النكتةquot; أو quot;الجائزة اللعبةquot;، أو quot;الجائزة الورطةquot;، على حد توصيفات بعض كتاب الرأي هنا وهناك، فيما إذا كان أوباما استحق جائزة نوبل للسلام بالفعل، أم كان دون إسمها وتقليدها، أرى بأنّ ما قاله الرئيس الأمريكي نفسه بهذا الصدد، هو جواب كافٍ ووافٍ، على أنه كان دون مستوى الجائزة بأعماله ومنجزاته، التي لم تتعدّ للآن حدود quot;النية الحسنةquot;، وquot;القول الحسنquot;، وquot;الفكر الحسنquot;، أما quot;المنجز الأوبامويquot; على مستوى quot;الفعل الحسنquot;، فلا يزال حتى اللحظة غائباً، أو مؤجلاً إلى ما تشاء السياسة، راهناً، ومصلحة أمريكا العليا، في القادم الباقي من ولايته، التي لم يمضِ على بدئها سوى عشرة أشهر أو تكاد.


بُعيد نشر خبر فوزه بالجائزة، قالها أوباما بنفسه، بتواضع وصدق عميقَين، كبيرَين، بأنه quot;تفاجأ بقرار لجنة نوبلquot;، لأنه quot;لا يستحق بأن يكون مع العديد من الشخصيات التي كرّمت بهذه الجائزة، رجال ونساء ألهموه وألهموا العالم بأكمله من خلال سعيهم الشجاع نحو السلامquot;.


ولكنه رأى بالمقابل بأنّ الجائزة ليست إلا quot;تأكيداً للقيادة الأمريكية من أجل طموحات يتطلع إليها الناس في العالم أجمعquot;.

إذن الرجل يقرّ بنفسه بأنه quot;غير جدير بالجائزةquot;، وهو لا يزال quot;دون سقف شجاعتهاquot; على مستوى الفعل، لا سيما وأن العالم كله يعلم بأن رصيده الفعلي في صناعة السلام فعلاً، سواء في كل العالم أو في جزءٍ منه، لا يزال صفراً quot;حالماًquot; أو صفراً quot;يتمنىquot;، يراوح مكانه في أكثر من جهة، وفي أكثر من قضية سلام منتظرة. والدليل على ذلك، هو السلام المعطّل بين إسرائيل وفلسطين، والسلام المفخخ في أفغانستان والعراق، والسلام المؤجل مع إيران وشقيقاتها في quot;محور الشرquot;، والسلام الحذر جداً مع جماعات الإسلام السياسي المتشددة...إلخ.

في محاور السلام هذه كلها، أوباما لم يصنع سلاماً حقيقياً، بقدر ما أنه quot;تمنىquot;، وquot;ارادquot;، وquot;قالquot; سلاماً، وquot;حلمquot; به، وهذا هو بيت القصيد في quot;سلام أوباماquot;، الذي لا يزال يطير في السماء، كسلام شاعري جميل، يُراد له أن يحدث في كل العالم، من جنوبه إلى شماله، ومن شرقه إلى غربه.


أوباما لم ينجز سلاماً بعد، وإنما أنجز quot;شعراً سياسياًquot; أو quot;سياسةً شاعريةquot;، علّ وعسى أن يصنع بها سلاماً في هذا العالم، أو ينجز عالماً في هذا اللاسلام.

فإذا كان هناك من مبررٍ أو سبب لمنح أوباما كسياسي كبير، يقود أكبر دولة في العالم، أكبر جائزة سلام عالمية، فهو ليس لأنه صاحب إنجازات سياسية عظيمة تحققت في السلام بالفعل، وإنما لأنه صاحب خطاب سياسي(لم يخرج من نطاق quot;النيات الحسناتquot; بعد)، يستند إلى قوة المنطق بدلاً من منطق القوة، وإلى قوة العقل بدلاً من عقل القوة، يدعو به كquot;داعية سياسيquot; إلى عولمة السلام، في مناسبة quot;قوليةquot; هنا وأخرى هناك.

فهو، استحق الجائزة ربما على رسالته السياسية quot;الشاعريةquot; بإمتياز، أو سياسته المجبولة بالشعر، التي يدعو فيها طيلة حوالي عشرة أشهر من تسلمه لمنصبه، كرئيس يشعرِن السياسة، إلى سلام مفتوح على كل العالم؛ سلام بلا شرق وغرب؛ بلا مسيحي صليبي ومسلم فاتح؛ بلا أسود زنجي وأبيض سيّد؛ بلا رجل فوق وإمرأة تحت؛ بلا عالم أول وثانٍ أو ثالث وعاشر..

إذن شاعرية خطاب أوباما، هي شاعرية سياسية، تريد وتتمنى للعالم، هكذا برداً وسلاماً على الكل، ومن الكل إلى الكل، أن تكون، وهي بهذا تشذ عن القاعدة السياسية التي تعرّف السياسة بأنها quot;فن الممكناتquot;، في حين أنّ سياسة أوباما، في هذا المنحى، كما يؤكد غياب الفعل راهناً وصعوبة لا بل استحالة تحضيره أو استحضاره لاحقاً، فهي سياسة حالمة تنحو quot;جهة الشعرquot; لشعرَنة الممكنات، ليس لأن أوباما لا يريد السلام ولا يسعى إليه، وأنما لأن ما يقوله كquot;خطيب سياسي شاعرquot;، ليس خارج إرادته فحسب، وإنما خارج إرادة العالم وممكناته راهناً، وربما في القادم القريب والبعيد منه أيضاً.


العالم، بكل تأكيد، ليس قصيدة شعر جميلة ممكنة، أو quot;حمامة تحط هنا، وأخرى تطير هناكquot;، كما يريد لها أوباما أن تكون.


العالم، ليس سهلاً، كالماء أو كقصيدة، كما أن أوباما ليس سوبرماناً، وليس بيده عصا سحرية لتغيير العالم كما وعد دوله وشعوبه وأديانه في الأول من تنصيبه.

الجائزة إذن، لم تُمنح لأوباما على المنجز من سلامه، وأنما في السلام المفكر فيه، أو المؤمّل، أوquot;المشعرَن فيهquot; على مستوى خطابه quot;الدعَويquot;، في الأشهر العشرة الماضية.


تأسيساً على هذا المنجز القولي، أو المنجز الفعلي المؤجل، يمكن اعتبار القادم من زمان أوباما، زماناً امتحاناً صعباً لسلامه(المشعرَن حتى اللحظة) الصعب، فيما إذا كان من الممكن، أو المتوقع له أن يرتق إلى مصاف مجايليه من صناع السلام الحقيقيين السابقين، الذين قال أوباما فيهم، بأنه quot;لا يستحقquot; الآن(وهو فارغ اليدين)، أن يكون مدوّناً في تاريخهم الحافل بصناعة شجاعة السلام، أو إنجاز السلام الشجاع.

نوبل الآن، استحقها أوباما على شاعريته السياسية في وصف السلام، كقصيدة ممكنة تطير، فهل سيستحقها لاحقاً قبل انتهاء ولايته، على فاعليته السياسية في صناعة عالمٍ من سلام، أو إنجاز بعض سلامٍ لبعض عالم هنا أو هناك، كفعل حقيقي ممكن؟


هل سيستمر أوباما على نهج نوبل(ه) الراهن، سياسياً حالماً يشعرِن السلام، ويخطب فيه كحمامٍ يطير؟
هل سيقفز أوباما إلى quot;شجاعةquot; أهل نوبل الماضين الخالدين في سلامهم، ويصبح سياسياً فاعلاً، ينجز السلام ويتمكن من تفعيله وتحقيقه بالفعل، كسلامٍ يعيش على الأرض، لا كسلامٍ يطير في الهواء؟
أم أن نوبل سيخسره، في الحالين، هنا quot;شاعراًquot; سياسياً في الدعوة إلى سلام القول الحسن، وهناك براغماتياً في تمكين سلام الفعل الحسن؟

هذا هو امتحان نوبل الصعب، لقادم أوباما الأصعب.


[email protected]