إن امعان النظر في أزمة العمل الوطني الفلسطيني وتفاقمها في السنتين الاخيرتين يسمح بوضع فرضيتين يمكن بواسطتهما مقاربة تلك الازمة، وهما فرضيتان مركبتان ومترابطتان بحيث يستحيل فصل احداهما عن الأخرى أن يفي بالغرض المنشود من تلك المقاربة.
الفرضية الاولى: استمرار واقع الاحتلال الاسرائيلي في مظاهره المختلفة، وفي مقدمتها السياسة الاستيطانية المتصاعدة، ورفض اسرائيل الانسحاب من الاراضي الفلسطينية المحتلة، واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.


والفرضية الثانية هي غياب المعارضة البناءة تحت ادارة السلطة الوطنية الفلسطينية لأن حركة حماس قد وضعت على عاتقها، على ما يبدو، تحطيم اسس هذه السلطة، والقطع مع نهج سياسي قام على التعامل المرحلي مع معضلات التحرير والبناء الوطني من خلال الامساك بالحلقات المركزية في كل مرحلة يمر منها النضال الوطني الفلسطيني وكأن هدف حماس هو عمليا اعادة الصراع الى بداياته المفتوحة بين اسرائيل والشعب الفلسطيني بشعاراته السياسية وممارساته العملية حتى في الوقت الذي يصرح فيه مسؤولوها بأنهم مع اقامة الدولة الفلسطينية على الاراضي المحتلة عام 1967.


إن حماس تعمل منذ اشتداد عودها التنظيمي والسياسي على تخريب برنامج السلطة الوطنية وتقويض التحالفات التي تدعمه داخل فلسطين وخارجها بدعوى ان هذا البرنامج قد سقط بفشل اتفاقيات ومنهج اوسلو في تحقيق ما ارتبط به من اهداف وما علق عليه من اوهام التسوية العادلة، وكذلك بزعم ان المهمة المركزية للنضال الفلسطيني تكمن في تحضير الشروط الملائمة للصراع المفتوح مع اسرائيل لاعادة النظر في مختلف معادلاته على انقاض نهج التفاوض الذي ثبت فشله في مختلف المجالات.

واذا عدنا الى الفرضية الاولى فقد لا نجد اختلافا جوهريا بين تقييم حركة فتح للسلوك السياسي الاسرائيلي وبين تقييم حركة حماس، غير ان المنطلقات والمبادىء الخلفية لتقييم كل منهما مباينة بعضها للبعض الآخر ان لم تكن متناقضة. وهوما يفسر الاختلاف الجوهري بين توجهي فتح وحماس في التعامل مع العامل الاسرائيلي في معادلة الصراع العام، وفي التعامل بين حماس وفتح في معادلاتهما الخاصة.


وهكذا، فإذا كانت الاختلافات في التقديرات ضيئيلة، الى حد كبير، بخصوص العائق الذي تمثله السياسات الاسرائيلية أمام عملية السلام، فإن البون شاسع بما لايقاس بين التكتيك السياسي الذي اعتمدته حركة فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية والتكتيك المتبع من قبل حركة حماس او بالأحرى استراتيجيتها العامة في التعامل مع هذا العائق.


ترى حركة فتح انه من غير المجدي التركيز على كون اسرائيل لا ترغب حقيقة في انجاح عملية السلام للتخلي عن هذه العملية التي يدعمها المجتمع الدولي، ومجمل قرارات الامم المتحدة ذات الصلة بالصراع العربي الاسرائيلي والتي تنص صراحة على ضرورة احقاق الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ذلك ان اسرائيل هي الوحيدة التي ستستفيد من مثل هذا الموقف لانها ستجد نفسها متحررة من كل الضغوط الدولية، على ضآلتها، في سبيل فرض الوفاء بالتزاماتها في عملية السلام وخاصة منذ انطلاق عملية اوسلو التي بموجبها قامت السلطة الفلسطينية. ولعل تركيز الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي ومجمل القوى الدولية الفاعلة على حل الدولتين يعطي الدليل على اهمية التمسك بالنهج السياسي الذي ترعاه السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة فتح في ادارة الصراع مع اسرائيل.


وفي المقابل، فإن حماس ترى في السلوك الاسرائيلي الدليل الملموس على خطأ نهج حركة فتح والسلطة الفلسطينية لأنه يؤدي الى مراكمة المكتسبات الاسرائيلية على الارض بفضل سياساتها النشطة في مجالات الاستيطان وتغيير المعالم الجغرافية والسكانية للأراضي المحتلة على حساب الشعب الفلسطيني الذي يجد نفسه يتراجع عن مواقعه سنة بعد اخرى وتواصل الولايات المتحدة والدول الغربية عموما دعوته الى تقديم المزيد من التنازلات في تساوق، وربما، بتنسيق من اسرائيل. وبالتالي، فإنه لا يمكن الخروج من هذا الطريق المسدود، والحلقة المفرغة، الا بقلب الطاولة رأسا على عقب، ولو أدى ذلك الى مواجهة مفتوحة مع اسرائيل وسياسات المجتمع الدولي التي ما تزال تحابي اسرائيل في مختلف منعطفات الصراع مع الشعب الفلسطيني والعرب عموما وآخر تعبير جلي على ذلك عدم القيام بأي شيء لرفع الحصار المضروب على غزة. وفي الحقيقة فإن هذا التصور الانقلابي في سياسات حماس يكمن في كونها تنطلق من تصور ايديولوجي للصراع مع اسرائيل يضعه في مستوى صراع الوجود مع الشعب الفلسطيني. والملاحظ انه هو ذاته الاساس الذي اعتمدته حماس في صراعها مع حركة فتح والسلطة الفلسطينية التي يتم نعتها بكونها المنفذ الفعلي للسياسات الاسرائيلية والاستراتيجية الامريكية الامر الذي يسوغ التعامل معها كما يتم التعامل مع هذه الاخيرة حتى في الوقت الذي يتم فيه رفع شعار ضرورة حماية الوحدة الوطنية الفلسطينية.


وقد ادى الدفع بهذا المنطق الى بعض حدوده القصوى الى المعارك التي شهدها قطاع غزة بين حماس والسلطة التي تم طردها من القطاع ليصبح خاضعا منذ صيف 2007 للسيطرة المطلقة لحماس في ظل استمرار الحصار الاسرائيلي بطبيعة الحال.


ولا يمكن فهم سيطرة حماس على قطاع غزة، مما حول السلطة الفلسطينية عملية الى سلطتين وحكومتين تخضعان معا للمراقبة الاسرائيلية، الا ضمن سياق الفرضية الثانية التي اشرنا اليها في مقدمة هذه المقالة حيث ان غياب المعارضة البناءة وعدم قدرة حماس على لعب هذا الدور أو عدم رغبتها في لعبه أصلا، قد جعل الازمة المؤسساتية شبه ثابتة في الحالة الفلسطينية.