استوقفني تقرير إيلاف الذي أعدّه محمد حميدة، الإثنين الماضي، عن quot;حركة نوال السعدواي الجديدةquot;. والذي استوقفني فيه أكثر، هو وصف الإسلاميين لتلك الحركة الطالعة لتوها وصاحبتها بquot;الفوضىquot;.

الطبيبة المفكرة، الناقدة، الروائية، والناشطة المصرية نوال السعدواي التي طالما وُصفت من قبل الأوساط الإسلامية في مصر وخارجها بquot;صانعة الفوضى والمشاكل، هدّامة الدين، وخالقة الفتن والبلابلquot;، لن تسعى عبر إنشائها فرعاً لquot;مجموعة التضامن من أجل مجتمع مدنيquot;(مركزها ولاية أتلانتا الأميركية) في مصر، إلى quot;هدمquot; مصر وناسها وأديانها، وإنما ستحاول من خلال جديد حركتها هذه، quot;الإحتفاظ بتسوية متوازنة بين عدم المساس بالهدف الرئيس، وهو الدعوة للعلمانية الكاملة من ناحية، ومن ناحية أخرى عدم التصادم مع الجماهير العريضة التى تعتقد ان العلمانية إلحادquot;.

الحركة كما هو واضح من تصريحات أهلها العلنية، لا تدعو إلى quot;جمهورية مصر الإفلاطونيةquot;، وإنما تدعو إلى مصر مدنية تمشي على الأرض، يكون الدين فيها للسماء، منفصلاً عن الدولة.

السعداوي لم تدعو عبر إنشائها لحركتها المدنية، لا إلى quot;مصر إسلاميةquot;، ولا إلى quot;مصر قبطية مسيحيةquot;، وإنما دعت إلى مصر علمانية ليبرالية، مؤسسة وفقاً لدستور quot;لادينيquot;، لا فرق فيها بين دين وآخر، أو ديني ولاديني؛ مصر تدرّس الدنيا وعلومها في مدارسها، بديلاً عن درس الدين(كل الدين) وتلقين ماوارئياته وquot;فوق عادياتهquot;؛ مصر يساوي قانونها بين نسائها ورجالها، ويكون فيها العلم المتحرك أعلى من كل الثوابت، وكل التابوهات وما وراءها.

تلك هي الطريق إلى مصر، التي تريد لها السعداوي مستقبلاً أن تكون، وتسعى بحركتها هذه، عبر فكرها الحركي، لأجل بلوغها.

ولكن أهل quot;الصلواتquot;، من ذوي quot;العقول الصائمةquot; عن التفكير، لا سيما أولئك النائمين في عسل quot;المشيخةquot; وما حواليه من إسلامويين ماضويين، الذين لا يريدون لمصر إلا أن تكون quot;ثابتةquot;، مراوحة في مكانها، لا بل عائدة إلى الوراء، وغائرة في الماضي السلف، والحكم السلف، هؤلاء استنفروا كعادتهم السلف، ودقوا ناقوس الخطر القادم إلى مصر، من quot;مصرية فوضويةquot;، تريد quot;إشاعة الفوضى والإضطرابات داخل المجتمعquot;.

quot;الحركة السعداويةquot; الطالعة هذه، أثارت حفيظة دعاة هذا الخطاب الإسلامي، لأنها بحسب هؤلاء المنضبطين في الماضي المنضبط، quot;فوضى خطيرةquot;، أي quot;خطر على أمن المجتمع واستقراره، لأنه يعطي الضوء الأخضر للتشكيك في الدين وثوابته والهجوم على رموزهquot;، على حد تصريح فتحي عثمان الباحث في الشؤون الإسلامية.

في آخر حوارٍ لها، بعد عودتها إلى مصر مؤخراً، توجز نوال السعدواي مفهومها للعلمانية بالقول: quot;مفهوم العلمانية الصحيح أن نبعد الدين عن النقاش العلمي والفلسفي والفكري والقانوني، والدين حالة فردية يمارس في البيت مثله مثل الجنس، وهل يتدخل أحد في العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة، ولهذا لا يحق لأحد أن يسأل الآخرين عن عباداتهم في بيوتهم، ولكن حينما يخرج الإنسان إلى المجتمع تكون العلاقة هنا مدنيةquot;(المصري اليوم، 15.09.09).

إذن ممارسة الدين، بحسب السعداوي، يجب أن تكون كممارسة الجنس تماماً، فردية جداً وخاصة جداً. فالخلوة هي الحبل السري المشترك بين الممارستين: الجنس والدين، كلاهما خلوة أكيدة؛ كلاهما عشق أكيد، خصوصي من نوع خاص، في مكان وزمان خصوصيين.

هي، ليست ضد الدين؛ كدين للفرد، بإعتباره quot;علاقة حرةquot; بينه وبين إلهه، وإنما هي ضده، حين يصبح هذا الدين(أياً كان)، quot;ديناً حزباًquot;، أو ديناً حكماًquot;، أو quot;ديناً سوطاًquot;، أو quot;ديناً سيفاًquot;، لتخوين وتكفير ومساءلة ومحاكمة وقتل أو تقتيل الآخر المختلف.

والحالُ، فإنّ علمانية السعداوي، ليست quot;علمانية فوضويةquot;، أو quot;علمانية بلا حدودquot;، أو quot;علمانية مستحيلة الحلquot;، أو علمانية quot;خارجةquot; على إرادة الله وخطابه السماوي، طالما أنّ الله، حسب كتابه، quot;خلق الناس شعوباً وقبائلquot;، وتركهم لحريتهم: quot;فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفرquot;!

إذا كانت دعوة السعداوي إلى quot;مجتمعٍ مدنيٍّquot;، تكون فيه مصر أما لquot;دنياquot; كل المصريين، مسلمين وأقباط وبهائيين، quot;دعوةً فوضويةquot;، وتكون فيه مصر الأعلى من كل دين، مساويةً لكل المصريين، quot;دعوة خطيرةquot;، فأهلاً بهذه quot;الفوضىquot;، وهذا quot;الخطرquot;.

وإذا كانت حركة السعداوي هذه quot;حركةً فوضويةquot;، تريد زج مصر في quot;الفوضىquot;(على حد اعتقاد الإسلاميين)؛ فوضى السياسة، وفوضى المجتمع، وفوضى الدين، وفوضى الأخلاق، وفوضى الثقافة...الخ. فأهلاً وسهلاً بهذه الفوضى؛ الفوضى الضرورية التي ستؤول(فيما لو شاء المصريون لهكذا مصر أن تتحقق)، كما يبدو من العنوان الفاتحة لمكتوبها الفاتحة، إلى quot;فوضى خلاقةquot;، تؤدي بمصر إلى quot;سياسة خلاقةquot;، وquot;مجتمع خلاقquot;، وquot;دين خلاقquot;، وquot;أخلاق خلاقةquot;، وquot;ثقافة خلاّقةquot;...

نوال السعداوي إذ تنشر quot;فوضاهاquot; في مصر، أو تنشر مصر في quot;الفوضىquot;، على حد إيمان أهل الثبات والمراوحة في النص وزمانه ومكانه، فإنها تريد أن تقول لكل المصريين: quot;ما لمصر لمصر، وما للأزهر للأزهرquot;.

اجتماع مفردة quot;فوضىquot; بquot;خلاقةquot; في هذا المقال، سيثير بالتأكيد حفيظة الكثير من المنضبطين الغارقين في انضباط الماضي، والمهووسين بعلوم اللغة المنضبطة، الذين يرفضون بالمطلق quot;اجتماع ضدين كهذين(فوضى+خلاقة) في جملة واحدة، أو اصطلاحٍ واحد، لا سيما وأنّ هذين الضدين ليسا بضدّين عاديين: فهما الضدان اللذان مشت عليهما أميركا، وquot;فتحتquot; بهما بعض quot;العالم الثابتquot; ولا تزال، للعبور إلى عالم أكثر حراكاً(العراق هو البلد النموذج في هذا السياق؛ البلد الذي انتقل من quot;ثبات الديتكاتوريةquot; إلى quot;فوضى الديمقراطيةquot;).

بغض النظر عن الإتفاق أو الإختلاف مع quot;نظرية الفوضى الخلاقةquot;، المصنوعة أميركياً، لquot;فتح الثقافات الراكدةquot;؛ تلك الإيديولوجيا الغربية بإمتياز، التي جوبهت على الدوام من جمهور quot;العالم الثابتquot; بquot;إيديولوجيا الثباتquot;، أو quot;إيديولوجيا الركود المقدسquot;، أو quot;إيديولوجيا إلى الوراء دّرquot;، بغض النظر عن أهل quot;المعquot; هناك، وquot;أهل quot;الضدquot; ههنا، فإني أرى في quot;فوضىquot; السعداوي quot;فوضى مصريةquot; جميلة، من مصر، إلى مصر، ولأجل مصر.

أنها ليستquot;فوضى مستوردةquot;، أو quot;فوضى مستعمرةquot; قادمة على ظهر الدبابات الأجنبية quot;الكافرةquot;، حسب اتهامات ممكنة قد تصدر من أهل quot;الإيمان الوطنيquot; الجاهز، وإنما هي صناعة محلية وطنية بإمتياز.


أنها ليست quot;فوضى الآخرquot; وإنما هي فوضى الذات؛ الذات التي تريد أن تكون نفسها، كواحدٍ في هذا العالم المتجدد، لا أن تكون العالم كله في واحدها.

نوال السعداوي، إن كانت quot;فوضويةquot; بحق، فهي quot;فوضويةquot; خلاّقة، لأنها تريد أن تغيّر مصر الثابتة، بquot;فوضاها المتحركةquot;.
هي quot;فوضويةquot; خلاقة، لأنها تريد أن تغيّر مصر المتديّنة، بquot;فوضاها اللادينيةquot;.
هي quot;فوضويةquot; خلاّقة، لأنها تريد أن تقلب مصر الإخوانية، بquot;فوضاها العلمانيةquot;.
هي quot;فوضويةquot; خلاقة، لأنها تريد أن تخلق بquot;فوضاها الجميلةquot;، مصر أجمل.
هي quot;فوضويةquot; خلاّقة، لأنها تريد أن تبني بquot;فوضاها البناءةquot;، مصر أعلى.
هي quot;فوضويةquot; خلاّقة، لأنها تسعى بquot;فوضاها الجادة المستجدةquot;، إلى خلق مصر جديدة لمصريين جدد.

[email protected]