في عصر ثورة الاتصالات الهائلة وما أسفرت عنه من تقارب بين أطراف هذا الكوكب الذي نعيش على ظهره، وفي ظل نظام العولمة الذي فرض نفسه على شعوب العالم كواقع لاسبيل إلى الفرار منه، أصبح لزاماً على الفرد - إذا ما أراد أن يواكب متطلبات هذا العصر - أن يتعلم لغة أخرى واحدة، على أقل تقدير، غير لغته الأم التي يتكلمها.


وتعلم لغة أخرى يعني الانفتاح على حضارة أخرى بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى. فالشخص الذي لا يجيد سوى لغته الأم لايمتلك الأدوات اللازمة للانفتاح على الحضارات الأخرى مهما أوتي من سعة في علم أو وفرة في ثقافة. والسبب في ذلك هو أن الشخص الأحادي اللغة أحادي التفكير بمعنى إنه ينظر إلى الأشياء - الحسية منها وغير الحسية - من زواية واحدة فقط هي تلك الزاوية التي تشكلت في وعيه منذ أن تعلم لغته الأم وبدأ يتفاهم بها. فاللغة أية لغة كانت ماهي إلا رؤية مختلفة لأشياء الكون المادية وللمفاهيم والأفكار المجردة.


أما الشخص الثنائي اللغة أو المتعدد اللغات فإنه يمتلك القابلية على النظر إلى الموجودات والمفاهيم والأفكار من أكثر من زاوية، وبالتالي فهمها بشكل دقيق وشامل لأنه يعتمد في ذلك الفهم على المقارنة والتحليل العميقين اللذين يبتعدان عن السطحية التي يسبّبها التفكير ذو البعد الواحد.


ويمكن تشبيه التخاطب بلغة واحدة فقط في هذا العصر بالسير على ساق واحدة ولنا أن نتصوَّر عناء الشخص الذي يريد أن يقطع مسافة ما على ساق واحدة وكم يتحتم عليه أن يبذل من جهد وأن يستغرق من وقت لإنجاز مهمته التي قد لايتمكن من إنجازها على الإطلاق.


وبما أن السير على ساقين هو الشيء الطبيعي والمعتاد في هذه الحياة وأن السير على ساق واحدة هو الاستثناء فإن تعلم لغة ثانية أو أكثر يجب أن يكون هو القاعدة التي يجب أن تتبع وليس الاستثناء. وهذه ليست دعوة للتخلي عن اللغة الأم بل على العكس هي دعوة صادقة للأجيال أن تتمسك بلغتها الأم أولاً وأن تتعلم إلى جانبها لغة ثانية أو أكثر من لغة. والتمسك باللغة الأم هو السبيل الأمثل للوقوف بوجه الغزو الثقافي الذي يمكن أن يسفر عنه نظام العولمة الذي ينظر الكثير من الناس إليه بقدر كبيرمن الشك والتخوف خشية أن يبتلع كل ما من شأنه أن يعزز المقومات الخصوصية للأمم والشعوب. وتعلم لغة ثانية أو أكثر هو أفضل سبيل للتعامل مع هذا النظام الجديد وفهمه والاستفادة من حسناته واجتناب سيئاته، وقديماً قالوا: من تعلم لغة قوم أمن شرهم.


وناهيك عن فائدة تعلم اللغات الأخرى في مد الجسور الفكرية والثقافية بين الأمم والشعوب وبالتالي زيادة التعاون فيما بينها لتحقيق الخير والرخاء والسلام في أرجاء هذا الكوكب، فإن مسألة تعلم اللغات الأخرى أصبحت ضرورة ملحة تفرضها متطلبات سوق العمل. ففرصة الحصول على عمل لشخص أحادي اللغة تظل ضئيلة ومحصورة في الحدود الجغرافية للبلدان الناطقة بتلك اللغة، أما الشخص الثنائي أو المتعدد اللغات فيجد السبل مفتوحة أمامه أينما ولّى وجهه باحثاً عن عمل.


ولم تنحصر أهمية تعلم لغة ثانية أو أكثر في حدود الأشخاص الباحثين عن فرص للعمل بل أصبحت من أولويات الدول التي تسعى إلى زيادة التبادل التجاري والصناعي وتوسيع التمثيل الدبلوماسي مع دول العالم الأخرى.


وإليكم هذا المثال: أدرك رئيس الوزراء الأسترالي كيفن راد الأهمية الجيوسياسية للصين كدولة مجاورة لأستراليا فدرس اللغة الصينيه في الجامعة الوطنية الأسترالية لسنين طوال وعند توليه مهامه قام بزيارة إلى الصين وألقى هناك خطاباً باللغة الصينية ولكم أن تتصوروا الأثر الذي تركه هذا الخطاب في نفوس الصينيين على المستويين الرسمي والشعبي.


وتشترط دول عديدة على سفرائها والعاملين في سلكها الدبلوماسي إجادة لغات البلدان التي يعملون فيها سعياً منها لإضفاء بعد جديد على العلاقات الدبلوماسية مع تلك البلدان من جهة وإلى معرفة مزاج الشارع بصورة مباشرة ومن دون عوائق من جهة أخرى.


وحثَّ تقرير اصدرته الحكومة الامريكية ونشرته البي بي سي على موقعها حثَّ الموظفين العاملين بالبعثات الدبلوماسية الأمريكية في الخارج على إجادة اللغات الأجنبية للبلدان التي يعملون فيها ليتمكنوا من أداء عملهم بشكل أفضل وتحسين صورة الولايات المتحدة في البلدان التي تعتبر استراتيجية من وجهة نظر الحكومة الأمريكية.

الدكتور علي يونس الدهش

الجامعة الوطنية الأسترالية

كانبيرا - أستراليا