أولى الإنسان المجرد عن التشريع حرصه الشديد على الأموال بطريقة سلبية ملاكها البعد عن الوسطية، حتى أصبح هذا الإتجاه أشبه بالعنوان الجامع للجرائم والحروب التي لا مبرر لها سوى إضافة ممتلكات المعتدى عليهم دون وجه حق، ولذا فإن القرآن الكريم قد بين لنا هذه الصورة التي انتهجها هذا الصنف من الناس في قوله تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعاً***إذا مسه الشر جزوعاً***وإذا مسه الخير منوعاً) المعارج 19-21.


وفي الآية إشارة إلى الإنسان قبل التشريع، وإن شئت فقل قبل أن يهتدي إلى التشريع، وهذا ظاهر في الاستثناء الذي أخرج تعالى به المؤمنين عن غيرهم في قوله: (وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملو الصالحات وقليل ماهم......الآية) ص 24.


وبناءً على هذا التقسيم فقد بين القرآن الكريم مجموعة من التدريبات تجعل الإنسان الذي يأخذ بها في مأمنٍ من الحرص السلبي، كما في قوله تعالى: (وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) التغابن 16. وكذلك قوله: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران 92. ويظهر من هذه التدريبات أن من يؤثر غيره سواء بالأموال الجامدة أو الممتلكات وصولاً إلى النفس، لابد أن يرقى إلى الدرجات المميزة التي تجعله مع الأبرار الذين بين الله تعالى منزلتهم في قوله: (إن الأبرار لفي نعيم) الانفطار 13. المطففين 22.


ولهذا فإن الحق تبارك وتعالى يؤكد على إنفاق الأجود والأفضل المستخلص من العفو المشار إليه في قوله جل شأنه: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) البقرة 219. وفي الآية إشارة إلى أدب الإنفاق دون التبذير، كما مقرر في قوله: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً) الإسراء 26. والوسطية ظاهرة في الآية الكريمة، وبعد ذلك بين سبحانه خلاصة هذه التدريبات في قوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً) الإسراء 29. ثم فسر ما أبهم بقوله: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً) الفرقان 67.


وبعد أن قدم القرآن الكريم هذه السلسلة الأدبية للمؤمنين بين لهم الطرق المؤدية إلى الإنفاق ثم اشترط فيها عدم إنفاق الخبيث، كما ورد ذلك في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) البقرة 267. وفي الآية مباحث:


المبحث الأول: الطيب هنا بمعنى الجيد الذي يقابله الرديء، وفي الآية إشارة إلى جميع المكتسبات التجارية أو الزراعية أو بالأحرى فيها بيان لكافة الطرق المشروعة، وإذا ما أردنا الأخذ بمفهومها الذي يشتمل على عدة مصاديق، نصل إلى معادن الأرض التي يستخرجها الإنسان بجهده، فإن قيل: لماذا وصف تعالى احتواء المكتسب على الطيب دون المستخرج من الأرض؟ أقول: يحتوي الصنفان على الطيب وما بينه في الأول دل على الثاني بقرينة عقلية دون التكرار الممل، وهذا كثير في القرآن كقوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فاتحة الكتاب 7. والتقدير: [غير صراط المغضوب عليهم ولا صراط الضالين] وكذا قوله: (وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً) النساء 1. والكثرة متحققة في الطرفين، وقوله: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) النساء 1. أي: والأرحام التي تساءلون بها، وبهذا يكون تقدير آية البحث: [أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومن الطيبات التي أخرجناها لكم من الأرض].


أما قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث) فمعناه لا تقصدوا الخبيث الذي في أموالكم وممتلكاتكم لتنفقوا منه، وفي الآية تشديد على عدم نفقة الرديء، وما يبين أن التيمم بمعنى القصد، قوله تعالى: (فتيمموا صعيداً طيباً) النساء 43. المائدة 6. أي: اقصدوا الصعيد الطيب، وكما في قول الأعشى:

تيممت قيساً وكم دونه......من الأرض في مهمه ذي شزن

أي قصدت قيساً، ومنه قول المثقب العبدي:

وما أدري إذا يممت أرضاً......أريد الخير أيهما يليني

أي إذا قصدت أرضاً.

وقوله تعالى: (منه تنفقون ولستم بآخذيه) أي تنفقون من الخبيث الذي لا تقبلون به إذا قدم لكم، وفي الآية توبيخ لهم، ثم عقب تعالى بقوله: (إلا أن تغمضوا فيه) أي تقبلون ذلك على استحياءٍ ودون قناعة منكم، عندما يكون لكم الحق فيه.


المبحث الثاني: قال أبو حيان في البحر المحيط: ظاهر الآية يدل على أن الأمر بالإنفاق عام في جميع أصناف الأموال الطيبة مجمل في المقدار الواجب فيها، مفتقر إلى البيان بذكر المقادير، فيصح الإحتجاج بها في إيجاب الحق فيما وقع الخلاف فيه، نحو: أموال التجارة، وصدقة الخيل، وزكاة مال الصبي، والحلي المباح اللبس غير المعد للتجارة، والعروض، والغنم، والبقر، والدين، وغير ذلك مما اختلف فيه. انتهى.


أما الطبرسي في مجمع البيان فيقول: روي عن أبي عبدالله (ع) أنها نزلت في أقوام لهم أموال من ربا الجاهلية، وكانوا يتصدقون منها، فنهاهم الله عن ذلك، وأمر بالصدقة من الطيب الحلال، وقيل: إنها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف فيدخلونه في تمر الصدقة عن علي (ع) والبراء بن عازب والحسن وقتادة. وبعد أن ذكر الطبرسي أسباب نزول الآية انتقل إلى معناها فقال: لما تقدم ذكر الإنفاق، وبيان صفة المنفق، وأنه يجب أن ينوي بالصدقة التقرب، وأن يحفظها مما يبطلها من المن والأذى، بين تعالى صفة الصدقة والمتصدق عليه ليكون البيان جامعاً فقال: (أنفقوا) أي تصدقوا (من طيبات ما كسبتم) أي من حلال ما كسبتم بالتجارة عن ابن مسعود، وقيل من خياره وجياده، ونظيره قوله: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران 92. انتهى. وقوله من خياره وجياده نظير ما قدمنا.


المبحث الثالث: يقول الشعراوي في خواطره: إن الإنفاق يجب أن يكون من الكسب الطيب الحلال فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، ولا يكون الإنفاق من رُذال ورديء المال، ويحدد الحق سبحانه وتعالى وسيلة الإنفاق من عطائه فيقول: (ومما أخرجنا لكم من الأرض) وهو سبحانه يذكرنا دائماً حين يقول: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) ألا نظن الكسب هو الأصل في الرزق. لا، إن الكسب هو حركة موهوبة لك من الله. إنك أيها العبد، إنما تتحرك بطاقة موهوبة لك من الله، وبفكر ممنوح لك من الله، وفي أرض سخرها لك الله، إنها الأدوات المتعددة التي خصك بها الله، وليس فيها ما تملكه أنت من ذاتيتك، ولكن الحق يحترم حركة الإنسان وسعيه إلى الرزق فيقول: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) ويحذرنا الحق من أن نختار الخبيث وغير الصالح من نتاج عملنا لننفق منه بقوله سبحانه: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) أي لا يصح ولا يليق أن نأخذ لأنفسنا طيبات الكسب ونعطي الله رديء الكسب وخبيثه، لأن الواحد منا لا يرضى لنفسه أن يأخذ لطعامه أو لعياله هذا الخبيث غير الصالح لننفق منه أو لنأكله (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) أي أنك أيها العبد المؤمن لن ترضى لنفسك أن تأكل من الخبيث إلا إذا أغمضت عينيك، أو تم تنزيل سعره لك، كأن يعرض عليك البائع شيئاً متوسط الجودة أو شيئاً رديئاً بسعر يقل عن سعر الجيد. انتهى.


فإن قيل: ماذا تعني بالتدريبات التي ذكرتها أكثر من مرة في المقال؟ أقول: التدريبات هي الآداب أو التعاليم التي يتلقاها المؤمن من الله تعالى بواسطة الآيات القرآنية، وكان أول من تلقى هذه الآداب هو نبي الرحمة (ص) كما بين ذلك في حديثه الشريف حيث قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي، ولذا خاطبه تعالى بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم) القلم 4.


عبدالله بدر إسكندر المالكي

[email protected]