في آب 1964 أطلق الحزب الشيوعي العراقي خطاً سياسياً جديداً كان مفاجأة للكثيرين، فقد دعى إلى مسايرة العهد العارفي القائم آنذاك، والكف عن معارضته أو رفع شعار إسقاطه، بعد أن قام بتأميم بعض الشركات والمؤسسات والمصارف،والصحف وتأسيس شركة النفط الوطنية موحياً أنه سيواصل الإجراءات الموسعة للقطاع العام بما فيها انتزاع استثمار النفط من الشركات الأجنبية متحدثاً عن إجراءات اشتراكية على غرار ما يجري في مصر!
قيل أن الخط الجديد للحزب الشيوعي العراقي جاء بأمر أو بتأثير السوفيت، الذين أضحوا حلفاء لعبد الناصر وأرادوا تقوية الاتجاه الناصري في البلاد العربية. رد البعض: إذا صح ذلك: فإن السوفيت لأول مرة يقدمون للشيوعيين العراقيين نصيحة مفيدة: العقلانية والحكمة والتروي في سلوكهم وسياستهم وتفكيرهم. لكن البعض الآخر قال إنه انحراف، تخل عن النظرية الماركسية اللينينية، وعن طبيعة الحزب الطبقية والوطنية، بل وخيانة للشعب والطبقة العاملة!
اقرأ رد عزيز الحاج |
اندلع جدل وصراع شديدان داخل الحزب وخارجه شهدت بنفسي جانباً منه. كنا آنذاك طلاباً في كلية الحقوق جامعة بغداد، كان صدام حسين يأتي إلى نادي الكلية متعمداً إبراز المسدس من تحت سترته، غير بعيد عما يعج في الجو الطلابي من إرهاصات وتحولات واحتمالات!
بدا الحزب الشيوعي بكل تناقضاته الجديدة محوراً شعبياً أكثر اتساعاً و تتطلع إليه الأنظار بترقب وانتظار، بينما بدا لآخرين أنه قد أضحى ورقة ممزقة في مهب الرياح!
أصرت قيادة الحزب على نهجها الجديد وتسربت عنها تصريحات تقول أنها لن تتراجع عن خطها الجديد حتى لو انسلخ عن الحزب 90% من أعضائه وأصدقائه وجماهيره، وحتى لو اضطرت لحل الحزب نفسه! وإن العراق يسير اليوم على طريق التطور (اللارأسمالي) وهو الصحيح والأسلم خاصة والعراق غني بالنفط والأرض والماء! وبدأ الحزب يعد نفسه للدخول إلى تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي الذي هو نسخة طبق الأصل للتنظيم المصري!
وقد لقي هذا التوجه تجاوباً من كثير من الناس أصدقاء الشيوعيين، كانوا يرون أن الناس قد تعبت من الصراعات الطبقية والحلم بجنة شيوعية خيالية لن تتحقق مطلقاً، وآن للبلاد والعباد أن يستريحا على وئام اجتماعي بناء مثمر!
ولكن في أيلول من عام 1967 قادت مجموعة من الكوادر في الحزب الشيوعي يتزعمهما عضو المكتب السياسي عزيز الحاج (أطلقت على نفسها اسم القيادة المركزية) انشقاقاً حزبياً أو ثورة ضد ما سمي بخط آب، واصفة إياه باليميني الانتهازي الذيلي!
لا يمكن القول أن تنظيم القيادة المركزية قد أعاق تطور العهد العارفي إلى نظام اشتراكي أو إصلاحي أو ديمقراطي، أو عروبي مواجه لإسرائيل، لكنه بالتأكيد منع عنه إسناد الشيوعيين الذين رغم ضعفهم كثيراً وتفككهم بعد الانشقاق وانشغالهم بصراعهم الداخلي عادوا تحت ضغط القيادة المركزية والقاعدة الحزبية التي زادت من اتهامها لهم بالخضوع للسوفيت ورفعوا شعار إسقاط النظام، وراحوا يعدون لذلك عبر ما تبقى لهم من تنظيم عسكري صغير في الجيش، و ينشغلون أو يغفلون عن مؤامرات البعثيين خاصة اليمينين منهم المستعدين للتعاون مع الأميركيين في سبيل الوصول إلى السلطة وذبح خصومهم وإبادتهم!
أي في لحظة سياسية معقدة وجد الشيوعيون أنفسهم بشقيهم في موقف لم يكونوا يريدونه أو يقصدونه: حمل المعاول مع البعثيين لهدم عهد، رغم سيئاته ونواقصه، تميز بالهدوء النسبي والاستعداد للتحول نحو الأفضل! (لا يمكن تجاهل تأثير العمل الكردي المسلح في الجبال، ومواقف قادة الكرد في تلك الحقبة أيضاً).
في تلك الأيام كان البعثيون ينسقون مع المخابرات الأميركية عبر العميل المزدوج ( بعثي أميركي ) السفير العراقي في بيروت آنذاك: ناصر الحاني (بعد وصولهم للسلطة عينوه وزيرا للخارجية لبضعة أيام، ثم اغتالوه وألقوا جثته عند صدر قناة الجيش).
خلال أشهر قليلة أفلح البعثيون الجناح اليميني ( البكرـ صدام ) بالوصول إلى السلطة بانقلاب قصر نفذه لهم ضباطه الكبار ( تخلصوا منهم فيما بعد الواحد تلو الآخر بالاغتيال أو النفي).
أكثر التحليلات ترجيحاً لهذا الانقلاب البعثي: هي أن المخابرات الأميركية أرادت التخلص من العهد العارفي والمجيء بالبعثيين إلى السلطة بعد تقديرها أن النفوذ السوفيتي في العراق أخذ في التصاعد مع تنامي دور القوميين الناصرين وطرحهم لمشروع تنظيم سياسي كبير هو الاتحاد الاشتراكي العربي وسينظم إليه الشيوعيون بما يمتلكون من قوة كبيرة في أوساط المثقفين والجماهير العراقية الكادحة والواسعة، وإن العرب يعدون مشروعاً جديداً لمواجهة هزيمة 5 حزيران 1967 أساسه قاعدة اقتصادية اجتماعية جديدة متحالفة مع السوفيت وأسلحتهم الكثيرة التي راحت تتدفق على مصر فعلاً! فأرادت قطع الطريق على نمو وتطور العهد الجديد بالإتيان بسلطة البعث المعروفة بعدائها الشديد للشيوعيين وللقوميين والناصريين وللقوى الديمقراطية واللبرالية، واستعدادها لمقايضة القضية الفلسطينية بكرسي الحكم في العراق وخدمة المصالح الأميركية كما خدمتها في انقلاب 63!
ثمة معلومات تفيد أن حزب البعث عرض على الحزب الشيوعي ( اللجنة المركزية ) مشاركته في الانقلاب لكن اللجنة المركزية للحزب رفضت ذلك، وعدته استدراجاً للوقيعة بالحزب، لكنها تركت البعث يمضي في مشروعه الانقلابي، بعد أخذ البعث للسلطة أعلمت اللجنة المركزية للحزب قادته بمخطط انقلابي كان يدبر ضدهم من قبل جماعة وصفت بالرجعية، كما وقفت إلى جانبهم ضد ما سمي بمؤامرة خان النص، وكان جزاء الحزب الشيوعي من قادة البعث المزيد من الملاحقات والتصفيات الجسدية والسياسية لأعضائه وكوادره!
كان الحزب الشيوعي العراقي منذ وقت طويل بحاجة إلى ثورة تعيد له صوابه! فهو قد تأسس أصلاً على فكرة خيالية طوباوية مستحيلة التطبيق، أي إنه عمل على زج الشعب والعمال والفلاحين في حلم أهوج خاسر وفاشل منذ البدء، ومن يريد له الخير هو من يرده لمنطلقات الوعي الصحيح بالواقع وممكناته، وقد كان خط آب بغض النظر عمن صممه أو أمر وأوحى به هو بعض من اليقظة على حقائق الحياة والتاريخ والجغرافيا والسياسة.
وكانت ثورة عزيز الحاج وجماعته ضرورية، لكنها جاءت في الاتجاه المعاكس: أي أنها عملت على إشعال المزيد من النار للهيب آب بغداد، بينما حاول جماعة خط آب سكب الماء البارد ( حتى لو كان من ثلوج سيبريا السوفيتية) على لهيب أيدلوجيتهم المستعر بشتى الصراعات والصدامات والمظاهرات والانتفاضات والثورات لثلاثين عاماً مضت آنذاك دون جدوى!
لا شك لدي في وطنية عزيز الحاج ورفاقه: خالد أحمد زكي وحسين جواد الكمر، وسامي أحمد وكاظم الصفار وبيتر يوسف وجاسم المطير وحامد أيوب العاني وهمام المراني ومالك منصور وغيرهم من الرجال الطيبين، لكنهم اعتقدوا أن المزيد من الثورية، والقفز عالياً في الهواء الأيدلوجي تعني المزيد من الحب والإخلاص لوطنهم وشعبهم!
واليوم ما هو الحصاد بعد هذا الخراب التاريخي الهائل المديد؟ الحزب الشيوعي العراقي والكثير من القوى والمثقفين اليساريين واللبراليين يعملون الآن في إطار عملية سياسية أسسها الأمريكان ويقودونها، وهم جميعاً محقون في ذلك وتحتسب لهم جرأتهم وامتثالهم للواقعية السياسية والنضال في إطار الممكن، أليس الشيوعيون بذلك يعودون لخط آب 1964؟ ألا يكون عزيز الحاج وغيره من المثقفين الشيوعيين السابقين الآن ينظر لخط آب يدري أولا يدري؟ ألم يكن آب آنذاك أقل مرارة وأقل ناراً وأكثر وعوداً ؟ كم كانت دورة التاريخ طويلة وحزينة؟
ومع ذلك فإن المسار الحالي لا يخل بوطنية هذه القوى والجماعات والشخصيات فهم ليسوا من جلب الأميركان إلى العراق ليحتل أو تسوده الفوضى، الذين جلبوا الأمريكان إلى العراق ليحتل وتسوده الفوضى هم البعثيون وقادتهم الطغاة المستبدون الذين أصروا على اغتصاب السلطة بالدم والغدر منذ أكثر من نصف قرن،وحكموا العراق منفردين ساحقين كل الأحزاب والجماعات السياسية العراقية وقهروا الناس وأذلوهم وشوهوا روح الفرد،وانتهكوا القوانين الدولية بحروبهم وغزواتهم وأعطوهم المبرر لغزو العراق، وما يزالون يعملون لاستعادة سلطتهم الغاشمة على هذا النهج الدموي العبثي دون مراجعة لمسارهم السابق أو للضمير والعقل!
ترى كيف كان يمكن أن يتجلي العراق اليوم لو كان قد قطع الطريق على البكر وصدام في الوصول إلى السلطة؟ ولو كان قد اختط طريقاً تأتلف به كل القوى التقدمية في تطور متدرج خاصة وإن القائمين على الحكم أدركوا عدم إمكانية قيام وحدة اندماجية مع مصر أو غيرها ؟ وكيف سيكون،وهو الأهم،لو كان قد قطع الطريق على انقلابي 14 تموز 1958 ونجى من شرور الانقلابات والحروب المتلاحقة ومن عنتريات الضباط البواسل والثورجية ؟
قضايا لم تعد منتهية منطوية في ذمة التاريخ! فهي الحاضر المتغذي من دم الماضي ودموعه، وفيها الكثير من العبر والدروس الضرورية لبناء عراق حر ديمقراطي على أسس واقعية علمية موضوعية،فمن التناقضات المريرة أن يدعى للديمقراطية واللبرالية بينما الكثير من بنى الذاكرة العامة يقوم على تمجيد الانقلابات العسكرية والحزبية والعنف السياسي!
التعليقات