ما يجري الآن على الساحة السياسية في الشرق الأوسط، وبالاخص في منطقة الأناضول، والسياسات التي تتبعها الدولة التركية مع دول المنطقة والدول العربية، والتي تكون دائما مبنية على حد قول الأتراك على quot;النية السليمة والعلاقات الطيبة التي تجمع دول الجوار ودول الدين الواحد ببعضهاquot;، جعلتني ارى الأشياء بصورة مختلفة، يمكن القول بصورتها الحقيقية هذا من وجهة نظري ومن وجهة نظر الكثير من الاشخاص الذين يعرفون جيداً السياسة العثمانية المسيسة لخدمة الدولة العليا في تركيا كما يسمونها.
اللعبة بدات من جديد، ولكن الطرق تختلف، فلم يكتف الاتراك بتزوير الماضي فقط وممارسة سياسة الظلم العثماني المتبع ضد شعوب المنطقة، اليوم يحاولون تزوير التاريخ واستعمال الدين الاسلامي مرة اخرى للوصول الى غاياتهم واطمعاهم.
ساعود معكم لنتكلم عن هذه النقطة ولكن بعد شرح بعض الامور التي لا تحتاج التفكير إلا لبضعة دقائق لكشف الاوراق التركية والمساعي الهادفة لتشكيل دولة عثمانية جديدة ولكن بمصطلح جديد على حساب شعوب المنطقة.
غيرت اللعبة التركية قوانينها، فانتقلت من مرحلة غزو الجيش العثماني لدول المنطقة وبما فيها الدول العربية الى مرحلة الغزو الثقافي العثماني المبتكر، المصطلح الجديد الذي بدى يدور في هذه الايام نقاش وسجال حادين في تركيا حول سبل حل القضايا المتوارثة من العهد العثماني، والتي لا تقر وتعترف بها الدولة التركية. وفي هذا الاطار اطلقت حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم، مشروعاً اسمته quot; بمشروع الانفتاحquot; على اصعدة متعددة منها على الصعيد العربي، الكردي، الأرمني والأهم من كل هذا على الصعيد الأوروبي وذلك بغية تضليل الشعوب وخداعهم وبأن تركيا جادة في حل هذه القضايا وهكذا يكون قد ضمن عضويته في الاتحاد الأوروبي.
الانفتاح على الشارع العربي
مع الاسف لقد نسي المواطن العربي الاحتلال العثماني، الذي استمر مالا يقل عن ستمائة عام وقام على اغتصاب وانتهاك حقوق العرب، وكان السبب الرئيسي بعدم تقدم العرب في المرحلة التي كانت بها الحضارة العربية في قمتها، نسي العرب وبسهولة مدى وحشية هذا الأحتلال في كل من سورية، لبنان، الاردن وفلسطين وغيرها من البلدان العربية، والظلم الذي اصاب الشعب العربي وعمليات القتل والاعدام الجماعي في ساحات دمشق وبيروت ومدن عربية أخرى، وغيرها من الأنتهاكات التي باتت لا تذكر وكأنها لم تحصل بتاتاً.
الانفتاح على الشارع العربي إن صح القول بدأ من حيث لا ندري، ففي الآونة الاخيرة دخلت المسلسلات الدرامية التركية كل بيت عربي، وبشكل غير معهود بسياسة تركية محنكة تمكنت من دراسة الكاريزما العربية بطريقة جيدة، واتبعت سياسة الدين الواحد كالمعهود، وكثرالحديث عن وقوف الاتراك جنب الى جنب مع العرب على جميع الجبهات وعلى رأسها جبهة فلسطين، وبالاخص في المسلسل الاخير الجاري عرضه في إحدى الفضائيات العربية المشهورة quot;الحب والحربquot; والتي لا تمس الحقيقة بأي شكل، بما يتعلق بالأحداث التي جرت في تلك الحقبة وبما يتعلق بمسالة الشعب الارمني وابادته.
اليوم كما نرى ان بطل الشاشة في اغلب الفضائيات العربية هو البطل التركي، البطل الشهم القوي الطيب المتدين المحارب المقاوم الذي يقاتل الشر والظالمين ويبعث بالسلام في البلاد.
الحقيقة التركية: وهل هذه هي الصورة الحقيقية للاتراك العثمانيين ولتاريخهم وهل هذه هي حقيقة ما كان يفعلونه بشعوب المنطقة؟.
سأترك لكم هذا السؤال لكي تبحثوا بانفسكم عن جوابه...
إذا تصفحت مواقع الانترنت والفضائيات العربية ومنتدياتها فسترى في أغلب هذه المواقع ان المثل الاعظم للمواطن العربي اصبح البطل التركي. لقد نجحت الحنكة التركية على فرض نفسها مرة أخرى، فقد عاد العلم التركي يرفرف في الكثير من شوارع المدن العربية بعد ان كان هذا العلم هو علم الاحتلال، وكان الشارع العربي يناضل ويقاوم من اجل استرجاع استقلال بلاده، ولكن مع الاسف اليوم هذا الشعب قد علق هذا العلم بيده، فبمجرد دخلولك الى اسواق دمشق تلاحظ ان اغلب اصحاب المحال التجارية قد علقوا هذه الأعلام ويتم بيعها في شوارع دمشق وكأنك في سوق اسطنبول، فما هو سبب هذا الحب المفاجئ؟. ان المخطط التركي يعمل اليوم جاهداً على محو التاريخ وتزويره وكتابة تاريخ جديد مستعملاً كافة الوساثل المتاحة امامه على جميع المستويات، السياسية الثقافية الاجتماعية وغيرها من الطرق الشرعية وغير الشرعية.
الانفتاح الكردي
النقاش والسجال الحادين الذي يدور في هذه الايام في تركيا حول سبل حل القضايا المتوارثة من العهد العثماني ومن ضمنها القضية الكردية والتي اطلقت حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم في هذا الاطار ما سمته بمشروع quot; بالانفتاح الكرديquot; وذلك بغية تضليل الشعب وخداعه بأنها جادة في حل القضية الكردية.
ولكن ما يحصل من انتهاكات ضد الشعب الكردي لا يدل على أن تركيا جادة في حل القضية الكردية، ولكنها في الواقع مستمرة في سياساتها القديمة تحت مسميات جديدة من قبيل الانفتاح الديمقراطي وتواصل على أمحاء كل ما يتعلق بهذا الشعب، سياسياً اجتماعياً وثقافياً، والعمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش التركي والتي تسفر عن وقوع عشرات الضحايا يومياً تؤكد عزم الدولة التركية على تصفية الأكراد من المنطقة على غرار ما حدث مع الأرمن.
اليس الاكراد بمسلمين؟. وهل هم دخلاء على هذا البلد؟.
هناك ما يقارب من خمسة وعشرين مليون كردي موجودين في المنطقة، هل يعقل ان يكون هذا الشعب بلا تاريخ؟. او ان الدولة التركية تعمل على الغاء تاريخهم وتصفيتهم؟.
إذا اين هو عامل الدين الاسلامي هنا، ولماذا يعمل الأتراك جاهداين على إنكار الحقوق المشروعة لهذا الشعب الذي يحاول لملمة نفسه والمطالبة بحقوقه مثله مثل شعوب العالم؟.
لماذا لا ينظر الأتراك لهم من هذا المنطلق، من المنطلق الإسلامي الذي يتكلم عنه السيد اردوغان وحاشيته الكريمة والذي لا يكف عن مواعظة العالم عما حدث في غزة وعن الإنتهاكات الجيش الاسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينين، ومن طرف آخر يجتمع مع الاسرائيليين وراء الكواليس، وكأن الأتراك ليسوا من قاموا بالابادة الجماعية بحق الأرمن واليوم يتابعون عمليات القتل بحق الكرد، وأن ايديهم ليست ملطخة بالدماء.
هذه السياسة الأردوغانية ليست بسياسة جديدة على من يعرف التاريخ التركي، والدولة التركية التي تدعّي الإسلام فهي مستعدة اليوم ان تتنازل عن جميع قيمها ومبادئها من أجل قبول عضويتها في الاتحاد الاوروبي، فالاسلام هو دين التسامح والسلام والمبادئ وليس دين ذو وجهان ويدعوا للقتل والفتنة.
والخطوة التي قام بها اردوغان بدعوة الاسد االى مائدة الافطار في تركيا ما كانت إلا عقد صفقة بينهم للاتفاق على طريقة جديدة او وسيلة جديدة يواصلون فيها ادعاء الانفتاح وفي الوقت نفسه تصفية الشعب الكردي، واثباتا لكل هذا فبعد عودة الاسد من تركيا اقدم باصدار قرار بالعفو عن المقاتلين الأكراد اعضاء حزب العمال الكردستاني، ويشمل هذا القرار عودة المقاتلين الى سورية وبعدم التعرض لهم في حال تركهم السلاح، وفي الوقت نفسه يوجد ما يقارب من مائتين وخمسين الف كردي في سورية لا يملكون الجنسية السورية ولا يحق لهم ممارسة حياتهم الأعتيادية كمواطنين سوريين.المعادلة في غاية الصعوبة.
quot;الأنفتاح الأرمنيquot;
يستمر النقاش الحاد في تركيا بعد مرور قرن كامل من الإبادة التركية للأرمن وانقطاع العلاقات بين البلدين. في الآونة الأخيرة بدأت الدولة التركية تتكلم عن مشروع سمته أيضاَ quot;بالانفتاح الأرمنيquot; هذه الكلمة التي باتت تسمع كثيراً في الأوساط التركية مشروع الانفتاح وتطوير العلاقات مع الأرمن ووضع quot;خارطة طريقquot; للاتّفاق على تبادل العلاقات الدبلوماسيّة وتطوير العلاقات الثنائيّة بين البلدين.
توصلت تركيا وأرمينيا في الأشهر الماضية لوضع بروتوكول لتبادل العلاقات الدبلوماسية وفتح الحدود بينهما والذي اثارت صدى واسعا داخل تركيا والعالم، باعتباره خطوة مهمة للاستقرار في القوقاز
ولكن هذا الاتّفاق يثير إشكاليّاتٍ ثلاث:
أوّلاً، إصرار تركيا الدائم على اعتراف أرمينيا بحدودها الحاليّة، خصوصاً مع تحسّس الأوساط التركيّة الوطنيّة من معاهدة quot;سيفرquot; الموقّعة عام 1920 التي كانت قد أقرّت الأراضي الرسميّة لأرمينيا الكبرى متضمّنةً ثلثين من الأراضي التابعة لتركيا حالياً.
وبذلك يصرّ البروتوكول على أن تتعهّد ارمينيا بضمان حصانة الحدود التركيّة الحاليّة، ممّا يعني التصديق على معاهدة كارس الموقّعة في 13 تشرين الأوّل عام 1921 بين أنقرة وموسكو، التي كانت تمثّل حينها جمهوريّات جنوب القوقاز الثلاث (جورجيا، أرمينيا وأذربيجان). وهو الأمر الذي طالما تحفّظت أرمينيا عليه، برغم ضمانة رؤسائها المتتالين لحدود الأراضي التركيّة.
الإشكاليّة الثانية تتعلّق بالمجازر الأرمنيّة التي ارتكبها النظام التركي في عام 1915، حيث أنكرت تركيا حقيقة حصول هذه الجريمة الإنسانيّة، سأعود معكم مرة أخرى للمسلسل التركيquot; الحب والحرب quot;الذي يعرض في احدى اشهر القنوات الفضائية العربية والذي يتناول موضوع القضية الارمنية ولكن بتغيير كامل للحقائق وتحريف الواقع وتزوير التاريخ، وبأن الأرمن هم من قتلوا الاتراك ولم يرحموا حتى النساء والأطفال منهم وأقدموا على فعل أفظع المجازر الإنسانية بحق الشعب التركي، هذه هي السياسة التركية التي تعمل من طرف على اعلان انها تسعى للسلام بغية تضليل الرأي العام وخداعه بأنها جادة في حل القضية المتعلقة بالأرمن ومن الطرف الآخر تزرع الحقد في قلب شعبها تجاه الشعوب الأخرى.
أمّا الإشكاليّة الثالثة، فهي حول إقليم غاراباغ الأرمني الذي ألحقه ستالين العام 1920 بأذربيجان السوفياتيّة الذي انفصل مجدّداً بعد الحرب التي جمعت الدولتين (1990ـ1994).
فلطالما انتقد الكماليّون الحكومة في ما يخصّ سياسة الانفتاح التي تعتمدها مع أرمينيا، باعتبار أنّه، وفقاً لنظرهم، لا وجود لمجزرة بحقّ الأرمن ولا بقضيةٍ أرمنيّة. بينما بدأ المجتمع المدني التركي يتعاطى بحساسيّةٍ أكبر مع الموضوع ويظهر رغبته في التصالح مع تاريخه، فهل يتحلّى بالجرأة لإعادة طرح القضيّة الأرمنيّة المحظورة، أم أيضاً هي لعبة منالعاب الأتراك القذرة.
quot;الانفتاح الاوروبيquot;
اصبح من الواضح والمعروف للعالم اصرارتركيا بالفوز ببطاقة العضوية للأتحاد ىالاروبي. لماذا تصر تركيا على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ولماذا يماطل الأوروبيون في انضمامها؟ أبسبب الهوية؟ أم لدوافع أخرى؟. لماذا تسعى تركيا الطامحة الالتحاق بالنادي الأوروبي، التركيبة السكانية والأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية كلها أوراق تشكل ملف تركيا المثير لكثير من الجدل.
هل ستتنازل تركيا عن قيمها ومبادئها للالتحاق بهذا النادي، وهل وستغير جلدها لتلبس الفرو الأوروبي؟.
هل تركيا الآن مستعدة لدفع هذا الثمن؟.
لن تستطيع تركيا دخول النادي الأوروبي قبل أن تتجسد في تركيا جملة من المعايير أو تستجيب لجملة من المطالبات وهذا رهان كبير يجب أن تكسبه تركيا، رهان في المجال الديمقراطي السياسي ورهان في المجال الاقتصادي وامتحان لقدرة تركيا على القيام بالإصلاحات اللازمة للدخول إلى الاتحاد الأوروبي لكن الدخول إلى الاتحاد الأوروبي كما هو معروف له ثمنه السياسي وله ثمنه الاقتصادي الكبير والسؤال المطروح بإلحاح هو هل تركيا الآن مستعدة لدفع هذا الثمن؟.
هناك عراقيل ومشاكل تواجهها الحياة السياسية داخل تركيا ومنها ما هو ناجم كما يرى البعض عن توجسات أوروبية بشأن هوية تركيا الإسلامية وقدرتها على الاندماج في أوروبا.
ولكن ستكون تركيا مستعدة بأن تقدم جميع التنازلات، المشكلة الاكبر هي على الأرض هناك العديد من العراقيل تركية الصنع التي تحول دون حصول تركيا على العضوية أهمها تباطؤها في تطبيق الإصلاحات التي أقرتها فيما يخص حقوق الإنسان، يضاف إلى ذلك ما وقع من بتر للإصلاحات التي كان من المفترض أن تحل المشكلة الكردية، فعودة حزب العمال الكردستاني إلى الساحة من جديد تحرج تركيا أمنيا وتذكر بملف الأكراد سياسيا، وفي المقابل فإن السياسيين الأتراك يخشون أن يسلبهم حلم الاتحاد الأوروبي ما لهم من نفوذ في قبرص إذ أن عدم التزام أوروبا بتنفيذ وعودها تجاه القبارصة الأتراك شكَّل فجوة من عدم الثقة بين الطرفين، وايضاً عدم الأعتراف بالمجازر التي ارتكبت في عام الف وتسعمئة وخمسة عشر بحق الشعب الأرمني في منطقة الاناضول، وتمسك الأتراك بقوميتهم وعاداتهم بشدة وعدم قدرة الجالية التركية في أوروبا على الاندماج في المجتمع الأوروبي، مما يعكس صورة سيئة عن الأتراك.
بيتروس بيتروسيان ـ بروكسل
[email protected]
التعليقات