يهرع الأعاريب اليوم من ضفة لأخرى، وتتوالى اجتماعاتهم ومشاوراتهم بين عاصمة وأخرى، لبلورة موقف موحد بعد هزيمة إسرائيل التي تمخضت عنها الحرب الأخيرة و أظهرتها كدولة إرهابية quot;ألترا نازيةquot;، تمارس القتل كهواية وهوية، ولاسيما بعد الصمود البطولي الرائع لشعب غزة الصامد وانكشاف هذا النظام الرسمي العربي على حقيقته ودوره المريب في هذا العدوان. وفي الحقيقة، تقف تداعيات انتصار غزة كسبب وباعث رئيس، لاجتماع أبو ظبي الأخير الذي قيل أنه لوقف التدخلات quot;غير المرحبquot; بها، وغير البناءة في quot;شؤونناquot; (حسب تصريحات رسمييهم) من قبل أطراف غير عربيةquot; (هكذا). والمقصود بالأطراف غير العربية طبعاً إيران تحديداً، ولننتبه جيداً هنا منعاً للالتباس، وليس غيرها، أو لإدانة التدخل العسكري الإسرائيلي والغزو الهمجي البربري لغزة، ولا لرفض الوصاية والهيمنة الأمريكية، أو الأوروبية، ولا حتى الهندية أو الفيليبينية والسيريلانكية على هذه الدول التي تعجز عن اتخاذ أي قرار.

وكان الجميع سيدعم هذه المبادرة والدعوة العربية quot;المعتدلةquot;، والمخلصة، وصافية النية جداً، ولـquot;وجه اللهquot;، لو كان الجهد والعمل والتضامن العربي قد أثمر أي شيء، أو أدّى لأية نتيجة، سابقاً، أو أفضى إلى أي إنجاز عبر تاريخ مديد من الانشغال الدبلوماسي المقترن بالفشل، والخيبة، والتقهقر والانهزام. لا بل، وهذه واحدة من الحقائق الجيواسترتيجية الفاقعة والمستجدة، والخلاصات الدلالية المؤرقة (للبعض)، والتي لا تخطؤها عين لبيب، ونضعها بالمجان أمام المجتمعين في أبو ظبي، وغيرها، فهذه المنطقة لم تعرف أي تبدل نوعي في طبيعة الصراع، وميزان الرعب، المائل أبداً لصالح إسرائيل، قبل أن تدخل إيران على خط المواجهة والصراع العربي الإسرائيلي، ليتحول كلية لصالح المقاومات. ومن لحظتئذ انقلبت كل معادلات الصراع وممكناته، رأساً على عقب وصار الجميع أمام واقع ومعطى جديد، أصبحت المقاومات العربية، بموجب ذاك التدخل quot;غير المرحب بهquot;، هي المتسيدة على الأرض، ويحسب حسابها في أي قرار وتحرك دبلوماسي، فيما لم يكن يأبه العالم، للنظام الرسمي العربي برمته وبأقطابه المعروفة، ولا يحسب لهه أي حساب، ويعاملهم كمعاملة الأيتام على طاولة اللئام. ولعلها من المرات النادرة جداً، في تاريخ الصراع في المنطقة، أن نرى إسرائيل بهذا الضعف والانهزام والحيرة والارتباك السياسي، ناهيك عن صورتها التي بدت في أحط أشكالها في نظر الرأي العام العالمي، وأصبح من الصعب جداً ترميمها.
ولو كانت جهود الاعتدال العربي صادقة، وخالصة النية لوجه الله تعالى، وتعمل فعلاً للمصلحة العربية العليا لاجتمع هؤلاء العرب، ليس لإدانة إيران والائتلاف، وتفعيل سياسة المحاور والتكتلات ضدها، وإنما لدعوتها لاستلام كافة ملفات الصراع العربية العربية، كلها بدل سياسة التمييع والمماطلة والعجز والتسويف وألعوبة quot;اللجانيةquot; العربية الشهيرة التي لم تعن سوى التمويت، ولم تورث سوى الهزائم والتردي والانحطاط والمراوحة في المكان. ما نراه اليوم ليس مجرد أمنيات وتمنيات ولا أضغاث أحلام، إنه واقع وسياسة وأرقام وخلاصات وقراءات واقعية موضوعية ومحايدة لما هو جار على ساحات الصراع. ولقد أثبتت تجارب الصراع أن دخول إيران على خطه، لم يكن إلا لصالح هذه المقاومات والقضايا التي ركنت طويلاً على أرفف الإهمال والنسيان. ويبدو أن تغير المعطيات لصالح المقاومات والشعوب، هو فقط مكمن وسبب quot;زعلquot; وتداعي عرب الاعتدال للاجتماع هنا، وهناك. فهم ولسان حال اجتماعاتهم يقول، quot;مع رفض التدخلات quot;غير المرحب بهاquot;، نريد للصراع أن يعود لصالح الزمن الإسرائيلي quot;الجميلquot;حين كانت إسرائيل تسرح وتمرح، وتعربد أمام جميع الأعاريب، بقضهم وقضيضهم، بشبابهم وشيبهم، وهم، ويا quot;غافل إلك اللهquot;، لا من سميع ولا من مجيب. هذا هو، في حقيقة الأمر، ما يعمل عليه عرب الاعتدال اليوم، ويصبون كافة جهودهم الدبلوماسية في سبيله تحقيقه.
إيران، ومن جهتها، التي تعمل بصمت وهدوء وتتبع سياسة النفس الطويل وبعيداً عن جلبة المؤتمرات وضجيج إمبراطوريات الإعلام وسياسة التهويل، وجعيع وطحن الطاحنين، وربما بمحض مصادفة استراتيجية لم تكن مقصودة، لكنها ذات رمزية دلالية بالغة المعنى والوضوح، ردّت، وفي نفس اليوم الذي كان عرب الاعتدال يعقدون اجتماعهم في أبو ظبي، بإطلاق أول قمر صناعي في الفضاء مخصص للاتصالات في تاريخها، وعبر الصاروخ الحامل له وهو ما أفزع البعض أكثر من ذات القمر الصناعي. هذا الفعل، هو الآخر، واحد من الإنجازات الاستراتيجية والتكنولوجية الكبرى التي حققتها في مرحلة ما بعد انتصار ثورتها التي تحتفل هذه الأيام بعيدها الثلاثين، يجعلها تكسب مزيداً من النقاط الاستراتيجية على الأرض ستصب لاحقاً، ولا شك، في صالح كافة جولاتها التفاوضية. فيما quot;أعاريبناquot;، ويا حسرتي عليهم يتعرضون للخسارة تلو الخسارة، وللخيبة عقب الخيبة، وحالهم شبه ميؤوس منها.
جرب الأعاريب كل السبل واستنفذوها ولم يتركوا باباً إلا وطرقوه، ولم يتركوا كفاً إلا quot;باسوهquot; وقبـّلوه، ولم تتحقق له نشوة النصر ورفع الصوت والرأس إلا في عهد التدخل الإيراني ( غير المرحب به). ولقد اعتمد بعض العرب ذات يوم، ليس ببعيد، على الاتحاد السوفييتي الشيوعي quot;الكافرquot; وباللغة وبالخطاب الأسطوري، إياه لمعظم المجتمعين، للذود عن حياضهم. كما يعتمد بعضهم الآخر، حتى اليوم، على الغرب quot;الكافرquot; أيضاً، في المأكل والمشرب والدواء والأمن والأمان، ومع ذلك لا يعقدون المؤتمرات للتصدي لمحاولات quot;التدخل المرحب بهاquot;( من قبلهم على الأقل)، في شؤونهم، فلماذا، وquot;إيشquot; معنى إيران؟ ثمة سؤال مشروع نضعه برسم عرب الاعتدال.