كنت وما أزال مقتنعاً أن مجتمعاتنا العربية والشرقية النائمة حالمة مطمئنة في أحضان التراث والقوميات غابرة الأمجاد، لا يمكن أن تستفيق من رائحة أزهار الخشخاش الوطني إلا على وقع سنابك خيول الغزاة والبرابرة، هؤلاء القادمون متجهمين صارمين يحملون سيوفهم في يد، ولكن ثمة في اليد الأخرى رسالة!

كان غزاتنا قبل خمسمائة عاماً الأتراك العثمانيون، ولم يكن في يدهم الأخرى من رسالة سوى ديننا نفسه! إذاً هي بضاعتنا ردت إلينا! حكمونا باسم الإسلام أربعمائة سنة، وكانت بغداد تباع في الإستانة لمن يدفع لخليفة المسلمين أكياساً أكثر من الليرات الذهبية، كانت تنتزع من جلود الرعية المسلمين وذوب قلوبهم!

وحين طردهم الإنجليز الكفار من بلادنا في عام 1917 وخلصونا من شرورهم لم يتركوا خلفهم، مدرسة ولا مستشفى ولا حتى حديقة صغيرة، تركوا لنا القشلة (أي القلعة ) تربض وسط بغداد نموذجاً للاستبداد والعنف!

كان البرابرة الغزاة الذين حملوا لنا الحضارة لأول مرة هم الكفار الإنجليز: عرفونا على السكك الحديد وعلى البريد والمستشفيات والمدارس الحديثة وعلى الكهرباء وإسالة الماء وكرة القدم، والأهم أنهم بنوا لنا دولة، وسنوا لنا دستورا عاش العراق في ظله الوارف قرابة أربعين سنة قبل أن يجهز عليه العسكر في ثورتهم في 14 تموز 1958.

وكانت حملة نابليون على مصر 1798__1801 هي الصدمة الحضارية العظيمة التي أيقظت مصر من سباتها، والمائة والخمسون عالماً الذين حملهم نابليون معه في سفينه و كتبوا( وصف مصر) هم الذين عرفوا المصريين على تاريخهم ولغتهم الفرعونية القديمة،وجعلوا من كتابهم تشخيصاً لمشكلاتها وخارطة طريق لمستقبلها،ومن هذه الصدمة مع الأجنبي تحققت انعطافة مصر نحو حياتها الجديدة التي تنعم بها اليوم،وفي هذا الوقت المبكر لهذا اللقاء الحضاري السابق لأي تماس حضاري عربي آخر يكمن سر متانة القوام الحضاري لمصر، وتميزها عن بقية الأقطار العربية!

وما حدث في العراق في 9 نيسان 2003 هو في مستوى هذه الصدمات الحضارية الكبرى التي استطاعت شعوب أخرى في العالم في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا واليابان أن تمتصها بإرادة وطنية وتتمثلها كنسغ مغذ نابذة جوانبها السلبية البديهية مبقية على ما هو لقاحي ومفيد لتبني به حياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية!

والجدل الذي دار ويدور حول 9 نيسان 2003 عيداً وطنياً، هو في جوهره يدور حول هذه القضية، هل ما يحققه لنا الأجانب والذي لم نستطع نحن تحقيقه يعتبر عيداً وطنياً؟ لكنه اتخذ نهجاً سياسياً لا نهجاً حضارياً، ومضى في سياق الصراع على السلطة والثروات وأخذ لافتة شعارات الوطنية الفضفاضة!

تولى طرف واحد تقريباً في العراق تحديد مفهوم الوطنية وهو الجانب التقليدي أو المحافظ أو ما يسمى لدى البعض بالرجعي أو الظلامي، أما الطرف الآخر فقد وقف على ضفة الدفاع مكتفياً بردود خجولة أو مبتسرة وغير دقيقة أو حتى خائفة ومذعورة ومرتبكة، zwj; مما جعل الطرف الآخر يمتلك الصوت الأعلى و يبنى عليه عنفه الدموي أو ما أسماه بالمقاومة الوطنية!

هدر في التاريخ حول مفهوم الوطنية والعمالة والخيانة حبر كثير ودماء أكثر وأكثر!
وشغل أوربا ودارت على سفوحه حروب طاحنة، وجعجع حوله كذابون ومنافقون وخونة كثيرون حتى قال المفكر الإنجليزي بن جونسون عبارته الشهيرة ( الوطنية آخر ملاذ للأنذال )!

وقال في فرنسا أوسكار وايلد ( الوطنية ملجأ الفاسدين ) وفي بلادنا اليوم نجد أكثر الناس صخباً وثرثرة حول الوطنية هم الذين طعنوا الوطن وخانوه وأوصلوه إلى ما هو عليه اليوم من بؤس وعذاب! فحزب البعث الذي لم يستطع أن يمنح العراق الحضارة المنشودة مع كل ما يمتلك من ثروة بترولية وأنهكه حتى اضطر لتلقي صدمته الحضارية من الأجنبي، هو أول من يتباكى على الوطنية المهدورة ويصف منقذي العراق بالعملاء والخونة،وعلى وقع رقصهم يردح اليوم كثير من الكتاب والشعراء الفاشلين!

إذا فتشنا في الفكر العربي عن تعريف للوطنية لن نجد أكثر من كلمات ضبابية هلامية زئبقية مراوغة، وربما نجد في الشعر ( الفكر العربي في معظمه وإلى حد قريب يذوب في جو شعري عاطفي مائع حالم ) والعرب حين كانوا في طور القبيلة والترحال ما كانوا يمتلكون وطناً كان فخرهم وشرفهم ينحصر بالقبيلة وإبلها وغزواتها: فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير! (وإذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا).

وقد ألحق الشاعر المعاصر الوطنية بالعلم ( عش هكذا في علو أيها العلم فإننا بك بعد الله نعتصم وعلى هذا المنوال وصف صفي الدين الحلي الوطن والوطنية أيضاً ( بيض صنائعنا سود وقائعنا خضر مرابعنا حمر مواضينا) هكذا يجب أن تكمل صورة العلم أو الوطن السيوف المضمخة بالدماء! ثم جاء الجواهري ليهدي للكرد وثورتهم الدائمة مفهومه الدموي للوطنية ( وطن تشيده الجماجم والدم تتهدم الدنيا ولا يتهدم، ثم مشى على نهجه صالح مهدي عماش ( حين اعتنقنا البعث كنا نعلم أن المشانق للعقيدة سلم )!


في الإسلام يتضح معنى الوطنية ضمن معيار الدين! والإسلام هو راية الوطنية (ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) وهكذا يمكن للأتراك أو الفرس أن يحكموا العرب، أهل البلاد باسم الدين دون أن تخدش الوطنية! وعلى هذا الأساس دخل عرب الجزيرة العراق حاملين الإسلام وغيروا طابعه السكاني تماماً فهو بعد أن كان سومرياً أكدياً بابلياً آشورياً تتخلله تجمعات عربية واحتلالات فارسية أضحى عربياً إسلامياً، وصار الغزاة القدامى هم أهل الوطن اليوم! ومن تبقى من سكانه القدماء غرباء نزعت الوطنية عن كثير منهم، وطردوا خارج البلاد بل وصموا بالخيانة!

وعلى هذا المفهوم الراسخ تعاقب على حكم العراق أجانب كثيرون كان العراقيون يدينون لهم بالطاعة عن رضى وقناعة كاملةzwj;! كيف لا وأئمتهم يدعون لهم بالعمر المديد على منابر المساجد؟

فحتى هولاكو وجد من يفتح له أبواب بغداد لسبيها باسم الإسلام، وحكم سلاطين وأمراء وخلفاء أجانب كثيرون العراق ومن وراء الحدود باسم الإسلام! و لو كان جورج دبليو بوش هو السلطان الإسلامي في استانة أمريكا لصار في نظر كثير من مشايخ المسلمين اليوم الملا (خوش) ولكانت القاعدة وبن لادن من حراسه وعسسه! مثلما كانوا فعلاً أيام محاربة الشيوعية في افغانستان.

أما حزب البعث والقوميون المتطرفون فيمارسون الوطنية على طريقة علاقاتهم بزوجاتهم، فهم يتظاهرون بالعفة والحشمة والطهارة أمامهن وأمام الناس، ولكنهم لا يتورعون عن خياناتهم الزوجية في الخفاء وكلما سنحت الفرصة لذلك،فالبعث وصل للسلطة مرتين: مرة علم 63،ومرة عام 68 بالتنسيق والتعاون السريين (المفضوحين ) مع الأمريكيين، ونفذ لهم مذابح بحق أبناء وطنهم من الشيوعيين خاصة كل ذلك وهم يتبجحون بالوطنية!

ولو كان بوش قد تحالف مع حزب البعث لإسقاط صدام وعائلته وطغمته وسلمه السلطة مدعومة بجيشه وأمواله لراح البعث يصفق له ولأعتبره قبل عفلق حامل الرسالة الخالدة إلى العالم zwj;. والدليل على ذلك الرسالة الأخيرة التي وجهها عزة الدوري قائد الجناح التقليدي البعثي لأوبوما يدعوه فيها للتحاور معه وكانت أهم مطالبه : طرد الجماعات الحاكمة اليوم وتسليمه السلطة zwj; لقاء ( أوثق وأخلص العلاقات مع الشعب الأمريكي وإدارته الحالية ) أي أن جوهر الوطنية لدى الدوري وهؤلاء البعثيين هي السلطة، والمواقع الباذخة الناعمة القديمة،وإن العلاقة والهيمنة الأمريكية تكون وطنية إذا كانوا هم من يتولونها، وخيانة ولا وطنية إذا تولاها غيرهم.zwj;

أما الوطنية لدى الأحزاب الطبقية أو الحزب الشيوعي فهي الأممية العمالية. فلو كان بوش هو دكتاتور البروليتاريا في أمريكا،أو الإتحاد السوفيتي لكان الحزب الشيوعي أول المتحمسين لقدومه، ولفتح له الطريق ولم يكلف نفسه عناء التناقض والازدواجية في موقفه حين رفض الأمريكان قبل الحرب، ثم وضع يده في يدهم بعد دخولهم بغداد وشارك في الحكم! بل إن (فهد) قائد الحزب الشيوعي في الأربعينات وجد في التحالف مع القوات البريطانية في العراق أمراً ضرورياً مادام يسند قوات الجيش الأحمر في حربه ضد جيش هتلر الذي صار يهدد موسكو، ثمة تصريح لعضو الكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي الراحل زكي خيري يقول ( لا تكتمل وطنية الشيوعي إلا بإقراره بالقيادة التاريخية الأممية للاتحاد السوفيتي )!

في خضم هذه المفاهيم المنافقة المتناقظة المضحكة المبكية عملت ولست سنين مضت بقايا قيادات البعث،وهي جريحة تنزف لفقدانها سلطتها وثرواتها ووجاهتها مع فلول القوميين المتطرفين والإسلاميين المتطرفين يقدمهم تنظيم القاعدة وكونوا نواة ملتهبة تحالفت مع النظام الإيراني و راحت تجتذب جحافل هائلة من البشر خاصة من بقايا الجيش العراقي وأجهزة الأمن والمخابرات الذي حل بقرار متسرع وقدم لهم كهدية، ومن الناس البسطاء خاصة في غرب وشمال العراق zwj;،وقد استلبت عقولهم ونفوسهم شعارات يومية رنانة كثيرة خلاصتها أنهم وطنيون يواجهون خونة وعملاءzwj;. يجب إبادتهم حتى لو اقتضى الأمر حرق المدن وما فيها zwj;.

وبينما استمرت مذابح البعثيين الأمريكية في عام 1963 لتسعة أشهر وبضعة أسابيع استمرت مذابحهم بعد 9_ 4_2003 لستة أعوام وهي متوصلة حتى اليوم يغذونها بأموال العراق التي سرقوها وادخروها لهذه الأيام السود، مع تمويل إضافي إيراني فحزب البعث كان ينسق مع إيران من قبل سقوطه، وعلنا أودع صدام طائرات العراق لدى الإيرانيين وما خفا أعظم، وهكذا يفهم صدام وأتباعه اليوم الوطنية!

من الواضح أن موقف القوى المعارضة أو جيش الثورة المضادة واضح وبسيط وسهل ويصل إلى مدارك الجماهير الساذجة بسهولة ويسر، ولكن موقف القوة القادمة الجديدة صعب ومعقد وفيه طبقات وتلافيف من الفكر والمكنون الفلسفي يستعصيان حتى على الكثيرين ممن هم في صفه! وبذلك تواصل بقايا البعث وحلفاؤها إلقاء مآسي الحاضر على كاهل أمريكا ومن جاء معها بينما هي من صنع أيديهم وحلفائهم الإيرانيين!

في الجهة المقابلة كان قادة الأحزاب التي جاءت بغداد بعد دخول الأمريكان إليها أو نشأت بعد فترة قد استلمت السلطة وهي لا تعي من موقعها سوى مسألة الصراع على السلطة والحصول على أكبر قدر من منها دون أن تجهد نفسها في وعي الحقبة التاريخية التي تعيشها : انعطافة في تاريخ العراق نحو الحضارة بالدرجة الأولى، والقادمون عراقيون وأجانب هم محررون وينبغي لهم أن يرتفعوا بعقولهم ويسموا بأرواحهم إلى مستوى هذه المهمة التاريخية العظيمة لا أن يتهالكوا على الدنايا والتوافه من المصالح الزائلة!

إذ لا مفهوم للوطنية غير الحرص على بناء الوطن وتقدمه وسعادته بالقوة المادية الفعلية،وبالنزاهة والمرونة العالية، لا بالشعارات الفارغة والقابلة للنقض والتبدل حسب مصالح الحاكمين!

ويسأل بعضهم بحق كيف تقول ذلك والأمريكيون الذين جاءوا معهم يقولون أنهم محتلون، إن ما يهمنا ليس هذا الأمريكي الذي ارتكب أخطاء أكثر من هذا بكثير، وهذا أمر متوقع منه ومعروف، ما يهمنا كيف نتعامل نحن مع أنفسنا ومعه بأقل قدر من الأخطاء والخسائر،حتى يخرج العراق بأكبر قدر من البناء والازدهار والسعادة لأبنائه المعذبين قرونا طويلة!

وهذا ما لم يحدث للأسف، فالطبقة الحاكمة لم يكن همها أي جانب معرفي أو فكري أو تمثل الوعي الضروري وبالتالي الأداء الصحيح والعمل الراقي، كان همها استلام السلطة،وأن يكنون أشخاصها بدلاء للحاكمين لا مغايرين لهم، حتى أن بعضهم راح يجاري القائلين بضرورة المقاومة المسلحة،بل يعمل معهم ليلاً،وفي الصباح تراه في المنطقة الخضراء يتعارك على مناصبه وامتيازاته! و يزايد مع الأمريكيين في قبوله لهم واستعدده لخدمتهم حتى لو تعارض ذلك مع مصالح وطنه!

ولكن لا بد من الإقرار أن قادة الأحزاب التي تولت السلطة مع كل انهماكها في الجشع السلطوي وقعت بين نارين! نار الإرهاب اليومي المعيق والمعطل للحياة وعمليات البناء، ونار الأمريكيين في اجراءاتهم وتصرفاتهم التي اتسم الكثير منها بالحمق والرعونة والغباء والتي حدت كثيراً من النتائج الطيبة المرجوة من منجزهم التاريخي في إسقاط النظام!

ومع كل الذي جرى ويجري الآن، يمكن القول بثقة إن العراق قد عاد وأستأنف عصره الحضاري الذي قطع في 14 تموز 1958، ولن يتراجع عنه أبداً! إن أولئك الذين أمسكوا علم الوطنية بالمقلوب وجعلوا من ساريته رمحاً يريدون به طعن رجال ونساء العراق الشرفاء المحررين،وطعن مستقبل الوطن أيضاً سيخسرون معركتهم قريباً.

صحيح أن النظام الحالي لم يستطع حتى الآن أن يتمثل الديمقراطية ومعنى دولة المؤسسات وفكر التغيير وثقافته ويخرج من أحشائه النظام السابق،لكن الأمر لن يستمر طويلاً فثمة أمل بجيل الشباب وأجيال لاحقة ستبنى العراق الجديد الذي سيأخذ مكانه في طليعة دول العالم المتحضرة!

إبراهيم أحمد