لا بد سيستوقفك المشهدان، بدلالاتها البالغة، حتى وإن كان يفصل بينهما حوالي الثلاثة أشهر تقريباً، ألا وهما، المشهد الأول: هو الاستقبال الشعبي، الحافل والحاشد الذي حظي به رئيس وزراء تركيا الإسلامي طيب رجب أردوغان من مؤتمر دافوس، احتجاجاً على quot;تمييز بروتوكوليquot; حصل بحقه، كما عبـّر هو بنفسه قبيل انسحابه مباشرة، ونظراً، حسب قوله، لعدم إعطائه الفسحة الموازية من الوقت، التي أعطيت للرئيس الإسرائيلي العمالي، صاحب المذابح الشهيرة في تاريخ quot;العربquot; الحديث، لشرح وجهة نظره، وذلك في معرض سجال حاد كان يدور على منصة القاعة حول غزة، والمواقف المختلفة حيالها.
وأذكر وقتها التبرير المقدّم من قبل السيد عمرو موسى، الأمين العام لما يطلق عليه بجامعة الدول العربية ، لخروج أردوغان، وكأني به، مدافعاً ومنافحاً، ومعتذراً بذات الوقت، عن الإحراج الذي تعرض له بيريز أكثر من أي شيء آخر على إثر انسحاب أردوغان الغاضب، حين قال-موسى- في تصريحات لجريدةquot;الشرق الأوسطquot; اللندنية: quot;كان الانسحاب بسبب إدارة الجلسة، وليس انسحابا سياسياً، وهذا ما جعلني أستمر في أعمال المنتدى دون انسحابraquo;. هكذا إذن، انسحاب إداري وليس له أية خلفية أو مضامين سياسية، أي بمعنى آخر لا تلوموا إسرائيل ولا بيريز فلا علاقة لهما بالموقف على الإطلاق؟
يبدو أن هذا هو الدور المتحول والجديد للجامعة العربية، الذي أصبح مجرد تجميل، وتبرير لما تقوم به إسرائيل وعدم إيذاء لمشاعر حمامات السلام كبيريز وغيره على الإطلاق. غير أن موقف أردوغان أخذ بسياقاته ورمزياته الحقيقية في عمق الشارعين العربي والإسلامي، انطوت فيما انطوت، وعلى عكس ما تمنى موسى، ويا حسرتاه، على تحدٍ لوجود الضيف الإسرائيلي، وتقليل من شأن وجوده وإهمال ولا مبالاة لرمزية وجوده في المنتدى، ما ألهب خيال الشارع المحتقن ضد إسرائيل ودماء أطفال غزة ما زالت تفوح في أرجاء المنطقة، ومشاهد الركام العبثي الإجرامي المنفلت من أية عقالات تطفو على ذاكرة ووعي الناس. ومن هنا فقد كان ما كان له من استقبال الفاتحين الأبطال في تركياً من قبل جماهير شعبه التي خرجت لتحيته، والثناء على خطوته الشجاعة والبطولية في ازدراء مجرم الحرب الصهيوني، لتعبـّر تلك المسيرات عن مكنونات داخلية، ومختزنات متراكمة، في عمق الوجدان الشعبي حيال إسرائيل وكل ما يتعلق بها، وهذه واحدة من الحقائق المؤلمة والملموسة، والتي يحاول quot;رسلquot; المحبة والسلام العرب، تجاوزها والقفز، وquot;النطquot; من فوقها.
وعلى الجانب الآخر فقد برز مشهد آخر لا يقل إثارة، ودراماتيكية، حصل بالأمس القريب، وتحديداً في مؤتمر في مؤتمر جنيف لمكافحة العنصرية quot;ديربان 2quot;، حين قام الرئيس الإيراني محمدو أحمدي نجاد، وأثناء خطبته، بوصف إسرائيل، وممارساتها في الأراضي العربية المحتلة، بالعنصرية، ما أثار موجة من ردود الأفعال الغاضبة بين الوفود الغربية الداعمة لإسرائيل، الذي أفضى، تالياً، لسلسلة من الانسحابات المتتالية من قاعة المؤتمر، احتجاجاً على وصم الكيان اليهودي بالعنصرية من قبل نجاد، الذي استمر في كلمته، غير آبه بردود الأفعال تلك. وسبحان من قيض للعرب، هذا quot;الفارسي الصفويquot;، ليتحدث باسمهم، وبالنيابة عنهم، ويدافع عن قضاياهم ويعبـّر عن عواطف ومشاعر شعوبهم، بعد أن انكفؤوا وتراجعوا ورضوا بما قسم لهم من قضاء وقدر سياسي. غير أن سلوك نجاد الذي أزعج الغربيين، كان يحظى، على جانب آخر، بتأييد غامر، وفرح عامر من قبل شارع عريض هنا وهناك، ووجد له مؤيدين، وأنصار، ومحبين في غير مكان من العالم، ولعل الاستقبال الشعبي العفوي الحماسي الذي استقبله به الناس في قلب طهران، يعكس مدى وأهمية موقف أحمدي نجاد، وخير تعبير عما يكنه له ابناء شعبه من محبة واحترام وتقدير لموقفه الشجاع.
لقد دخل الرجلان، مع مشهديهما، التاريخ، كما وجدان وذاكرة الناس. فمواقف البطولة والشجاعة والإباء قلما تمحى من الضمير والوجدان. وسيمضي وقت طويل قبل أن تخبو تلك الجذوات المتقدة التي أوقدها المشهدان في الخيال الشعبي العام لأبناء المنطقة، لاسيما وأن الرثاثة، والابتذال، والتواضع هو ما يطغى على السطح، ها هنا، ومنذ أمد غير قريب، على أية حال.
غير أن هذين المشهدين، يلقيان بظلال ثقيلة، قاتمة وسوداء، على مشاهد أخرى، في أماكن أخرى من العالم، ويذكرا المرء بمسؤولين أشاوس يتسللون، خيفة، وخلسة، ومن الأبواب الخلفية، وتحت جنح الظلام، ولا يدري بهم أحد، متى خرجوا، ومتى عادوا، ويلجون مقاصدهم وسط حراسات أمنية مشددة، وجحافل من العسس، ووجيوش مؤللة وجرارة من البوليس السري، ورجال الاستخبارات. والبون شاسع، وشتـّان ما بين هذا وذاك.
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات