قيل الكثير عن تعقيدات وطبيعة العلاقات الفرنسية ـ العراقية والتي مرت بتموجات كثيرة نتيجة للظروف الدولية والإقليمية والداخلية لكلا البلدين. فلقد منح النظام العراقي السابق لفرنسا امتيازات كثيرة وعودها على نمط من العلاقات والتعاملات لم تألف بديلاً له في تعاطيها مع الملف العراقي لاسيما قبل الحرب، والموقف الفرنسي الرافض لتلك الحرب، وهو الموقف الذي اعتبره الشعب العراقي محاولة يائسة من قبل باريس لإنقاذ النظام السابق من السقوط للمحافظة على ما تبقى لفرنسا من الامتيازات التي كانت تتمتع بها خلال حقبتي السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم.

لقد شعرت باريس بالحيرة في مقاربتها السياسية والدبلوماسية مع العراق لأنها اعتدت على أشخاص معينين من أصحاب القرار في النظام السابق يقدمون لها العقود والصفقات بلا منافسة ولا أي جهد يذكر.. أما اليوم فلقد أصبح العراق بلداً ديمقراطياً ذا مؤسسات ودستور وقانون ورقابة وبرلمان وحكومة منتخبة وسلطات متعددة مستقلة كالسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية وفيه حرية تعبير وحرية صحافة وحقوق إنسان لا يمكن انتهاكها بسهولة. عندما استعاد العراق سيادته تدريجياً وبات صاحب القرار ويمتلك مصيره بيده قرر أن يعيد النظر في حساباته وعلاقاته الدولية ورسم مصالحه الحيوية بيده ويتوجه إلى كافة الدول التي يمكن أن يقيم معها علاقات جيدة وعادلة ومتساوية بصيغة الند للند. ومن بين الدول المهمة التي رغب العراق أن يعد الجسور معها هي فرنسا بالطبع باعتبارها دولة متطورة وفاعلة داخل الاتحاد الأوروبي وذات خبرة في العمل والنشاط داخل السوق العراقية فكان لابد من خطوات تمهيدية لإصلاح ذات البين بين بغداد وباريس. فلا توجد احتكارات أو نشاطات مغلقة أو حكراً لأحد ولا امتيازات للأمريكيين أو اليابانيين أو أية بلدان أخرى فنحن في العراق على مسافة واحدة مع جميع الدول والشركات كما صرح فخامة نائب رئيس الجمهورية العراقي الدكتور عادل عبد المهدي في زيارته الأخيرة لباريس واجتماعه مع وفد رفيع المستوى من رجال الأعمال ورؤساء الشركات الفرنسيين الذين تعهد أمامهم شخصياً بالمحافظة على استثماراتهم وأنهم على الرحب والسعة متعهداً بإزالة كافة العوائق والعقبات التي تقف في وجه الاستثمارات الفرنسية في جميع المجالات وقال لهم مداعباً نريدكم في بغداد وليس في عمان تتفرجون علينا عن بعد. ولمعرفته العميقة بالمجتمع الفرنسي وبالنشاط الثقافي والتجاري والصناعي والاقتصادي الفرنسي نجح الدكتور عادل عبد المهدي في استخدام الخطاب الواضح والجريء والصريح الذي يفهمه الفرنسيون مستغلاً علاقاته الوطيدة والمتينة مع شخصيات فاعلة ومؤثرة في السياسة الفرنسية مثل وزير الخارجية بيرنارد كوشنير وجاء ليفتح الطريق أمام انطلاقة جديدة في تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين ورسم الخطوط العامة لتعاون ثنائي وثقافي والاقتصادي بين الجانبين العراقي والفرنسي ورسم الخطوط الاستراتيجية لمنفعة البلدين وتمهيداً للخطوة التالية التي ستتجسد بزيارة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي التي ستخوض في تفاصيل وحيثيات الاتفاقيات التي ناقشها وتطرق إليها واتفق بشأنها فخامة نائب رئيس الجمهورية وبالتالي تثبيت الجوانب التكنيكية والفنية لخارطة التعاون والتبادل الفرنسي العراقي في قطاعات حساسة يحتاج إليها العراق كقطاع الكهرباء والطاقة والمياه والتصريف الصحي والتربية والتعليم وتدريب وتأهيل وتكوين الكادر العراقي في المجالات الأمنية والعسكرية والمدنية والهندسية والثقافية وكما قال الدكتور عادل عبد المهدي عبد المهدي للفرنسيين quot;: نحن على طريق إعادة البناء والترميم لتأسيس مجتمع متقدم ومنفتح يحاول اللحاق بركب المجتمع الدولي والدول المتطورةquot;.


كان برنامج زيارة نائب الرئيس العراقي حافلاً باللقاءات والدعوات الرسمية فقد التقى مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وقدم له هدية راقية هي لوحة تشكيلية للفنان والخطاط العراقي الكبير محمد سعيد الصكار الذي تلقى تكريماً كبيراً من جانب فخامة نائب الرئيس وحفاوة بالغة بشخصه وبفنه الرفيع. وقد سبق للدكتور عادل خلال زيارته لباريس أن ألتقى بوجوه معروفة من النخبة المتألقة من الجالية العراقية المقيمة في فرنسا وتعامل معهم كأخ وصديق ورفيق درب في وقت النضال ضد الدكتاتورية ومقارعة النظام البائد وقال لهم مخاطباً إنني واحد منكم ولا أختلف عنكم تقع على عاتقي مسؤوليات كما تقع على عاتقكم جميعاً مسؤوليات وعلينا جميعاً نفس الواجبات ولنا نفس الحقوق لايستطيع المسؤول وحده أن يفعل شيئاً بدونكم كما لاتستطيعون أن تفعلوا شيئاً بدون تعاون المسؤولين معكم.

وحلل أمام الحاضرين طبيعة المجتمع الفرنسي والسلطة الفرنسية ومايتطلب التعاطي مع فرنسا من تفهم وحذاقة واستيعاب للمشتركات التي يدرك سرها الدكتور عادل جيداً ويعرف كيف يستغلها فهو خبير في الشؤون الاقتصادية والمالية لذلك تحمل القسط الأكبر من مهمة التفاوض بشأن الديون العراقية وتمكن من إقناع الجميع في نادي باريس بأهمية إسقاط أو إطفاء كل أو جزء كبير من الديون لقاء استثمارات طويلة الأمد مع دول مزدهرة ومتعافية ونامية في طريق البناء حيث المردود الربحي يزيد بأشواط كبيرة على أقساط استرجاع الديون والفوائد المترتبة عليها. ثم شخص فخامة نائب الرئيس الثغرات والعلل والمعوقات التي تؤثر على تطور العملية السياسية في العراق وتعيق تقدم المجتمع وتوفير الخدمات ومحاربة الفساد المستشري والحد من نشاط الإرهابيين والعمل على استئصالهم ليس بالقوة وحدها بل بكل الوسائل المتاحة الأخرى فهو صراع طويل الأمد ويستدعي دراية تامة بأساليب الإرهابيين ومخططاتهم وقد حقق العراق بالفعل تقدماً ملموساً في الملف الأمني وقد آن الأوان للالتفات للملفات الأخرى العاجلة وعدم التذرع بحجة إنعدام الأمن.. ماذا يمثل العراق لفرنسا؟ شعب عريق وتاريخ مغرق في القدم، وحضارة زاهية عبر آلاف السنين، والأهم من كل ذلك سوق واعدة. فالعراق سيكون أكبر مستهلك للاسمنت على سبيل المثال لأنه على طريق إعادة البناء والإعمار لما خربته الحروب المتتالية التي دمرت كل شيء فيه. فالإسمنت يأتي بعد الماء والكهرباء كمادة رئيسية وضرورية للحياة. فكل فرد في العراق يرغب في ترميم ما تحطم من بيوت ومدارس وبنايات حكومية وأهلية وشوارع وطرق الخ.. كما يقول برونو لافون رئيس شركة لافارج الفرنسية الأولى في انتاج وتسويق الاسمنت في العالم والمتواجد حالياً في العراق تلبية لتوصية الدكتور عادل عبد المهدي لرجال الأعمال الفرنسيين بأن يتواجدوا على الأرض ويشخصوا الاحتياجات الواقعية للعراق من الداخل. وهناك قطاع النفط حيث يمتلك العراق ثاني احتياطي نفط في العالم بعد السعودية إن لم يكن الأول ويزيد احتياطياته من النفط على 115 مليار برميل. وهو يصدر اليوم بين مليون ومليون ونصف المليون برميل يومياً وستزيد طاقته الإنتاجية باضطراد لو حصل على الاستثمارات النفطية الضرورية لتجديد البنية التحتية للآلة الإنتاجية النفطية وسترتفع طاقته الانتاجية بعد عامين إلى أربع ملايين برميل يومياً وربما ستصل إلى ستة ملايين كما وعد وزير النفط حسين الشهرستاني عند زيارته إلى باريس قبل اسابيع مما سيوفر للعراق سيولة نقدية هائلة. مايفتقد له الفرنسيون هو الجرأة والخروج إلى الشارع للتشخيص الحقيقي والواقعي للأوضاع السائدة هناك وليس الاكتفاء بالتقارير النظرية فالطاقم الدبلوماسي الفرنسي سجين القلعة الحصينة المتمثلة بالسفارة الفرنسية التي يعملون ويعيشون في داخلها حسب اعتراف كلود بوليه الملحق الفرنسي لشؤون التعاون وتأكيد السفير الفرنسي على ذلك جون فرانسوا جيرو.


لقد استيقظ الفرنسيون كما يبدو بعد التحدث مباشرة مع من يمثل الجسر المتين الذي يربط فرنسا بالعراق وهو الدكتور عادل عبد المهدي الذي حدثهم بلغتهم وبالخطاب الذي يفهمونه ويرتاحون إليه وحثهم على الإسراع في الإنغماس في الشؤون العراقية فسارعت شركات كبرى مثل توتال وتطنيب ودوغريمونت وبويغ وفينسي والخطوط الجوية الفرنسية Total،Technip،Degreacute;mont،Bouygues،Vinci،et Air Franceالذين أرسلوا أوسيرسلون في القريب العاجل ممثلين دائمين لهم إلى العراق لتقديم العروض والتنافس مع الشركات الدولية الأخرى. والأمر لن يقتصر على الشركات الكبرى أو العملاقة والمتعددة الجنسيات فالسوق العراقية مفتوحة وترحب بكل الشركات المتوسطة والصغير المتخصصة وذات الخبرة والتجربة المشهود لها لاسيما في مجال الزراعة ومنتجات الألبان حيث ستصدر شركة Laiterie limousine 3000 بقرة إلى العراق، والصناعات الخفيفة وغيرها. وهناك التبادل الثقافي والتربوي وتفعيل البعثات والزمالات للطلاب العراقيين الراغبين في الدراسة في فرنسا على كافة المستويات والمراحل وهو الأمر الذي لم يغفله فخامة نائب الرئيس وركز عليه بإلحاح نظراً للحاجة العراقية الملحة للكوادر المتخصصة والكفوءة.

د. جواد بشارة
[email protected]