-1-
علينا الإعتراف أولاً بأن العراق الجديد، المتمثل في واقع ما بعد حكم صدام، هو عراق مغاير الى حد ما: إن كان ذلك من حيث النظام الحاكم، أو التمثيل السياسي، أو المؤسسات الدولتية، أو فرص و مساحة المشاركة الشعبية في الحياة السياسية، أو غيرها. و لا بإستطاعة أحد اليوم أن ينكرحقيقة أن زوال النظام البائد كان حدثاً نوعياً في تاريخ العراق المعاصر، فضلاً عن أنه أحدث قطيعة سياسية كبيرة مع الحقبة الماضية أو مع أغلب وجوه الحياة السياسية المظلمة التي كانت سائدة في تاريخ هذا البلد.


كما أن سقوط النظام البائد، هو الحاصل الذي كُنا لم نكن حتى نحلم به كما كان حالنا في أيام حكمه، وذلك لأسباب مختلفة: ربما إما بسبب إطالة أمد حكم الحاكم، أو إخفاق محاولات الإطاحة به، أو فشل الخطط الرامية، الداخلية منها و الخارجية، للإنقلاب عليه، أو ربما بسبب إخماد النظام نفسه للإنتفاضات الشعبية و قمعه للإحتجاجات المجتمعية و قبضته الحديدية ضد كل فرد في المجتمع و قسوته المعهودة بل نزعته القمعية في التعاطي مع أية ظاهرة مُعارَضة تروم النيل منه بالأعمال و النيات!.

-2-

من جهة أخرى، نحن نعلم أن سقوط النظام البائد (1968-2003 ) مهد للعراقيين أمر آخريستحق ذكره هنا، ألا وهو الأرضية المطلوبة لممارسة حياة سياسية جديدة، لم يكن يتمتع بها البلاد و العباد منذ أن تأسست الدولة العراقية، وذلك نتيجةً لواقع مرير، مرنا به جميعا و ذوقنا مجملنا ويلاته و آلامهً،عنيت غياب الحريات السياسية ومنها أهم و أسمى الحريات، التي تتمثل في حرية إختيار الممثليين السياسيين، وكذلك لغياب سلطة تكون مُنتخَبة من قبل الشعب وبمرضاته و مكوَّنة بإرادة كافة أطيافه و ألوانه المجتمعية و الثقافية دون أي إكراه سياسي أو قمع دولتي أو ضغط حزبي، أي على غرار ما تحقق أخيراً لشعبنا في عراق مابعد صدام، من مظاهر ديمقرطية متواضعة و مُشجعة.
فعلى هذا الصعيد، يمكن لكل مراقب محايد الآن أن يشهد وبحق لهذا التطور التاريخي الذي أعقب هذا الحدث، و أن يعترف أيضاً بوقوع تحول سياسي و مجتمعي حقيقي حصل في البلاد و إحال بنا الى حقبة جديدة و مختلفة من تاريخنا، حقبة ربما عصفت علينا ليس لنتعامل معها و كأننا في نزهة سياسية! أو في مسيرة يسيرة أو نلعب معها لعبة الأطفال، و إنما لتضعنا أمام رشدنا الوطني و أمام أصعب الإمتحانات السياسية و أكثرها خطورةً على حاضر و مستقبل البلاد، أي إختبار إرادتنا في بناء العراق مجدداً و على وجه أفضل بكثيرمما كنا نشكو منه و نعتبره حقبة الضلام و الإستبداد من تاريخنا.

-3-

قد يكون الأمر الذي يدفعنا نعتقد هنا أننا فعلاً أمام مرحلة معقدة و عويصة من هذا القبيل، هو صعوبة إجتيازنا للإمتحانات السياسية التي تواجهنا واحدة بعد الأخرى، كما وصعوبة تجاوزنا للعهد الماضي تجاوزاً جذرياً يشمل كافة مظاهر حياتنا بما فيها أنماط تفكيرنا و تدبيرنا السياسيين لعراق اليوم، خاصة في ظل تنامي المشاعر التي تنتابنا هذه الأيام، و خاصة بعد نصف عقد و نيف من صراع حام دار بيننا و مايزال على السلطة و الثروة و الهوية اللاوطنية!، والتي تذَكّرُنا للأسف بغياب إرادة حقيقية ملموسة فينا حتى الآن تبَشّر بولادة عراق مختلف كلياً ومتميز على مستوى الإخلاقيات السياسية و الطبائع الإجتماعية و النزعات الثقافية، التي كانت سائدة في الحقب المضلمة.
-4-

أن الشعور بغياب الإرادة لبناء عراق مختلف، هو أمر محزن تماماً حتى وإن كان المرجو هنا هو بمثابة حلم جميل أكثر مما هو قابل للتحقيق ببساطة، وقد قلنا في أكثر من مناسبة أن سقوط الديكتاتورية لايعني كل شيء، و لم يكن هكذا، وبالتالي لايُفَهم على أنه ختاماً للماضي أو إنطلاقة راديكالية للحاضر. فنهاية الإستبداد لاتعني بالضرورة ولادة الديمقراطية و لا تعني سيادة القيم البديلة للدكتاتورية التي تشكل معانيها و مفاهيمها، و هنا يأتي الحديث عما كنا و مانزال نؤكد عليها، سيما في إطار عملنا الثقافي و الإعلامي، أي التأكيد على حقيقة دامغة، مفادها، ضرورة الإنتباه العراقيين دوماً لما يراهنوا عليه وهماً حتى لا يصطدموا في النهاية بوقائع عسكسية/مأساوية تتبخر بسببها الأحلام الجميلة و تتقهقر الأمور و لايبقى لهم في النهاية إلا أن يأملوا بأمر عار: هو عودة الماضي..

-5-

أن أخطر التمنيات في مسيرة المجتمعات البشرية هي التي تخشى الحاضر و تُمجد الماضي و تعمق فينا الحنين اليه. نحن محكوم علينا أن نفهم أن هذا الحنان و الشغف لما مضى من الدهر و من زمان لاتفسره محاسن الماضي بقدر ما هو نتيجة فشلنا في التعاطي الخلاق مع الحاضر و تعاملنا اللاعقلاني مع شروطه و تحدياته.. إذا كنا في عراق اليوم لا نجد أمام أعيننا تحقيق الكثير مما كنا نصبو اليه مع سقوط النظام البائد، و ما كنا نحلم به، فالمشكلة ليست في أن النظام السابق كان نظاماً أفضل مما نعيش الآن تحت رحمته من حُكم، ولا معنى أصلاً لأن يسلم أي منا برأي آيديولوجي كهذا، وإنما الأمر لايعود إلا لأمر واضح وضوح الشمس ألا وهو إخفاقنا في تلبية مقتضيات العراق الجديد و تعقيداته السياسية و المجتمعية و الثقافية. و ربما أسوء الإشكاليات التي لم نحسن التعاطي معها حتى الآن هو إغفالنا للمشاكل البنوية للمجتمع العراقي و تصميمنا الفاشل على بناء العراق دون أي مراجعة نقدية معرفية معمقة للماضي و دون تفكير بالبنى المجتمعية و الثقافية و حتى السايكولوجية المعقدة التي تتحكم عادةً بمواقفنا السياسية و سلوكياتنا الثقافية و علاقاتنا الإجتماعية و التي سبق و أن أنذَرَنا بها كبار علماء الإجتماع العراقيين، على رأسهم الدكتور المرحوم علي الوردي ( 1913-1995).

-6-

بعبارات أخرى، نحن علينا أن نفهم أن أغلب المشاكل و الأزمات السياسية التي نواجهها في عراق اليوم هو راجع في الأساس الى الأسباب البنوية و ليس الأسباب الظرفية وحسب، و لا يختلفان أثنان منا على أن معالجة الأسباب البنوية للمشاكل و الأزمات ليست بسهلة و لا تجارب المجتمعات الأخرى تقول لنا ذلك، و إنما تستدعي منا مسؤولية كبيرة هي العمل على إحداث ثورات ثقافية و تنويرية قبل أي شيء، ثورات لم تعد هناك ndash; و هذه هي علتنا- من قوى إجتماعية فاعلة و مستقلة في البلد اليوم بإمكانها الإشتغال عليها و تشعيلها طالما غابت أصلاً قوى من هذا القبيل في البلد أو مُستَبعَدة أصلاً عن الوطن، و طالما أنتُهِجَت سياسة إقصاء المثقفين و الكتاب أو الفنانين في ساحة المشاركة السياسية الفعلية، و العمل الوطني المجرد من شروط الولاء المسبق للأحزاب السياسية، الذي بات للأسف يدمر كل حركة مدنية مستقلة عن إرادة الدولة و الأحزاب و المذاهب و المشارب السياسية و هذه هي بحد ذاتها مشكلة أخرى من مشاكلنا.

عدالت عبـدالله