يستذكر العالم هذه الأيام واقعة الهلوكوست الشهيرة كونها واحدة من اكبر المذابح التي عرفها التاريخ، حيث فاقت في وحشيتها الكثير من المجازر الأخرى حتى تلك التي ارتكبتها الحضارات البدائية، فقد أشارت الإحصائيات المتوفرة إلى مقتل أكثر من ستة ملايين يهودي خلال عقدي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، بعد اتهامهم من قبل السلطات النازية بالعمالة للحلفاء والتسبب بهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى والمشاركة في مجهود أعداء ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، حيث غذى الفكر العنصري المهيمن آنذاك مشاعر الكراهية ضد اليهود ودفع باتجاه ارتكاب تلك المجزرة الرهيبة، التي مازال العالم يئن من جراحها الكبيرة رغم مرور عدة عقود على حصولها.


ورغم أن هذه الحادثة المروعة غدت جزءا من حقائق التاريخ التي لاسبيل لنكرانها، إلا أن هناك من يصر على تكذيب هذا الحدث والشك بمعطياته لدواعي جلها سياسية، لاسيما في منطقتنا المليئة بالعقد والأحقاد، حيث يحاول كثيرون الربط بين حادثة الهلوكوست وقضية فلسطين، معتبرين اعترافهم بالهلوكوست واستذكارهم لها خيانة لقضية فلسطين، وهو أمر يثير التساؤل حول صحة الأيدلوجيات التي تتحكم بمواقفنا ومشاعرنا ؟ فهذه الأيدلوجيات ليست نابعة بالتأكيد من أي منطق سليم ولا تتناسب بأي شكل مع قيمنا الإنسانية، فنحن ندير ظهورنا دون أن نشعر للموقف الإنساني الصحيح لا لشيء إلا لان مشاعر الكراهية تمسك بتلابيبنا و تتحكم بنا، فلا شيء يجمع بين حقيقة الهلوكوست وأحداث فلسطين، لأنهما حدثان مختلفان من حيث الزمان و المكان وبإمكاننا أن نصدر حكمنا على كل منهما بمعزل عن تأثير الحدث الأخر، عندها سنكون متحررين من أي تأثير مسبق وسيخرج موقفنا حرا طليقا مرتكزا على القيم الصحيحة ومشاعرنا الصادقة.


أن علينا بدل التشكيك الإعجاب باهتمام الساسة اليهود بضحايا شعبهم، واستذكارهم الدائم لما عانوه أو لقوه من قتل وتعذيب، فهم مواظبون على احترام ذكراهم و توثيق معاناتهم والمطالبة بحقوقهم أينما وجدوا، وهو أمر لانكاد نرى مثله في منطقتنا، حيث يقتل الناس لأتفه الأسباب وتنسى آلامهم ومعاناتهم بسرعة كبيرة، ففي العراق مثلا قتل مئات الآلاف بسبب الإرهاب والاستبداد، لكن لم نسمع يوما عن محاولة لاستذكار هؤلاء الضحايا أو الاهتمام بحقوقهم، مايجعلنا نصدق كل مايقولونه عن هذه الحادثة ولا نجد في ذلك أي مبالغة.


لقد تحرر العالم من تحكم الايدولوجيا وتمكن من توسيع هيمنة العقل على مديات أفقنا الإنساني، فحتى ألمانيا التي شهدت أرضها تلك المجازر البشعة اعترفت بتلك الكارثة، وأخذت تكفر عنها بوسائل شتى بما في ذلك الدعم الاقتصادي، حيث تقدم ألمانيا مساعدات سنوية مهمة لإسرائيل بغية التكفير عن ذلك الذنب، أما الأمم المتحدة فقد أصدرت قرارا دوليا جعل يوم 27 كانون الثاني من كل عام موعدا لاستذكار تلك الكارثة التي لم تقع في وقت واحد، لكن اختيار هذا اليوم جاء تكريما لبعض الناجين القلائل الذين عثر عليهم الحلفاء في سجن اوشفيتيس النازي في ذلك اليوم من عام 1945، فكانوا من القلائل الذين شهدوا تلك المأساة المروعة وساهموا في توثيقها.


لقد اضطرت بعض الدول وتحت تأثير التشكيك الذي تمارسه الكثير من الأطراف، إلى إصدار القوانين التي تجرم أي تشكيك بهذه الواقعة أو أي محاولة لنفيها، لان عملية التشكيك كانت نابعة من أهداف سياسية أو أيدلوجية وليست نابعة في معظمها من دافع علمي، وهو ما أثار موجة من الجدل لم تنقطع وتيرتها حتى الآن بين من دعم ذلك القرار وبين من رفضه، ما دفع البعض إلى اعتبارا ذلك مناقضا للديمقراطية ودليل انحياز لإسرائيل، لكن لو توخينا الحقيقة لوجدنا أن هذا القرار جاء كرد فعل لموجة التشكيك غير المعقولة التي قادتها بعض الجهات تحت غطاء المنهج العلمي.


إن واقعة الهلوكوست تستحق أن تكون حدثا عالميا كبيرا لأنها استهدفت الإنسان، حيث لم تكن هناك وجود لدولة يهودية، وكان معظم الذين وقع عليهم ذلك الحيف يعيشون في أوربا على شكل جاليات صغيرة، أما عدد الضحايا الكبير فهو سبب أخر يدفعنا إلى التعاطف مع هذه الحادثة واستذكارها كما يفعل الآخرون، وبالتأكيد سوف تساهم مشاركتنا في استذكار الحادثة في تحسين وضعنا الدولي وتغيير نظرة الناس ألينا، فقد يكون بإمكاننا تحسين صورتنا أمام العالم وإصلاح بعض ما خربه الإرهابيون..

باسم محمد حبيب