بما أن الطرح الديني بجميع توجهاته يعتبر أحد مؤشرات الواقع في انتخابات مجلس الأمة الكويتي، بل في الحياة السياسية بالكويت، لابد في المقابل من وجود طرح يستطيع أن يكون منافسا أساسيا له وبديلا للناخب، ولا أجد من يطرح نفسه بوضوح كبديل إلا الطرح العلماني بمختلف توجهاته أيضا. وحينما يكون الطرح واضحا وشفافا سوف يكون التنافس فكريا قبل أن يكون سياسيا، وسوف تُفضح التوجهات الفئوية والطائفية والقبلية الضيقة المتسترة بالوطنية، وسيعرف الناخب مثالب توجه كل مرشح وكل طرح، والطريق الذي يجب أن يضع قدميه فيه. فلا يجب أن نتلاعب بمسميات الطرح، لأن الناخب يريد الوضوح، وإذا ما اخترنا هذا الوضوح نستطيع ممارسة النقد بكل شفافية وأن نرد على جميع الانتقادات الموجهة إلى الطرح فكريا وسياسيا.


لا يمكن لأنصار الطرح الديني أن يتعايشوا مع الديموقراطية، وكل ما يستطيعون فعله هو أن يتعايشوا مع آلياتها ليستغلوها بصورة تحقق لهم مصالحهم الدينية المستندة إلى المفاهيم التاريخية الضيقة، لكنهم لن يترددوا في أن ينعتوها بنعوت لا تمت بصلة لمفاهيم الديموقراطية ومسلكياتها بمجرد ما تصبح معطياتها في الضد من فهمهم الديني. فلا مطلق في الديموقراطيات بل جميع الأمور نسبية، وجميع القضايا بشرية غير سماوية، وجميع المسائل خاضعة لقيم ومعايير اجتماعية وأخلاقية متغيرة. فالبرلمانات تعبّر عن بشرية الحياة لا عن سماويتها، ومناقشاتها هي محصلة تفاعلات الناس وتفسيراتهم المختلفة للأمور والقضايا، ولا وجود فيها لأناس يعبّرون عن ثقافة تعكس الثوابت والمسلمات غير البشرية، لأنها لا تنطق باسم السماء وإنما باسم البشر الخطائين.

والإسلاميون في الكويت تواقون لآلية انتخابية توصلهم إلى السلطة أو البرلمان من أجل تفعيل غاياتهم البعيدة عن الأسس التي تستند إليها الديموقراطية. وتجربتهم مع العمل النيابي تثبت بما لا يدع مجالا للشك بأنهم في الضد من الديموقراطية، وبالذات حينما يفرز التداول البرلماني قوانين تتعارض مع التفسير الديني التاريخي الموجّه في خانة المطلق والسماء، كالموقف من المرأة، ومن الترفيه، ومن حقوق الإنسان، والحرية الشخصية، ومن تعديل المادة الثانية من الدستور. فالمطلق الديني يدغدغ مشاعرهم ويحرك مشاريعهم القانونية، وهو بالنسبة إليهم يفرز خطوطا حمراء لا يمكن تجاوزها، بل يعتبرون متجاوزها يستحق العقاب الدنيوي والأخروي. فلا يوجد في جدال الديموقراطية ما يمكن أن نسميه خطوطا حمراء فكرية وسياسية. فالأفكار منجز بشري نسبي وليست مسلمات أو ثوابت، وبالتالي هي قابلة للنقاش والتداول، ومعرضة للقبول أو الرفض، وأي استخدام لثقافة المنع والإقصاء والجبر تجاهها هو نسف لأسس الديموقراطية وتحد لدستور البلاد.


إن وسيلة الديموقراطية عند أنصار الطرح الديني هي مجرد آلية لتثبيت موقف يتفق مع الشريعة أو لا يخالف الشريعة، أي هي آلية تحدد سلفا quot;جوازquot; أو quot;عدم جوازquot; موقف من المواقف. والاعتراف ndash; مثلا - بحرية الاعتقاد لدى الإنسان انطلاقا من حقه كإنسان وليس انطلاقا من الفهم الديني والجواز الشرعي، هو موقف يدلل على مركزية الحداثة والعلمانية. في حين أن الاعتراف بذلك انطلاقا من التفسير الديني التاريخي، يدلل على مركزية الخطاب الديني التاريخي والحكم الفقهي في تأييد أو رفض حرية الاعتقاد ومجمل الحريات الإنسانية. إن المفكرين عادة ما يسألون السؤال التالي: هل يمكن للدين الإسلامي، وفق مدارسه التفسيرية الفقهية المتعددة والمتباينة، أن يتوافق مع الديموقراطية، خاصة وأن الدين يعتبر من نتاج الماضي والحياة القديمة، بمعنى أنه ظهر قبل الحداثة وتغيراتها المادية والمفاهيمية، أي قبل العصر الجديد، عصر العلمانية، في حين أن الديموقراطية حسب صورتها الحالية وتجربتها الراهنة وآلياتها هي نتاج الحداثة والعلمنة؟ لو تمعنا في نتاجات الحداثة والعلمنة سوف نجد أنها تختلف مع النتاجات التي أسسها مفسرو الدين عن الإسلام عبر التاريخ. ففي حين أن من نتاجات الحداثة والعلمنة تأسيس إنسان quot;ناقدquot;، كان من نتاجات الدين الفقهي التاريخي تهيئة إنسان غير ناقد، بل quot;منقادquot; وquot;مطيعquot; للأوامر في جميع مناحي الحياة، خاصة وأن الإسلام يُطرح بوصفه دينا ودنيا. إذاً لا صلة للنقد بسلوك المسلم صاحب التديّن التقليدي التاريخي، حيث لا يتماشى ذلك مع المبدأ الذي تأسس وتربى في ظله وهو الطاعة والتسليم. في حين لا يمكن للإنسان العلماني الحديث أن يكون منقادا مستسلما مطيعا، لأن ذلك يتعارض مع أطر الحياة الجديدة المستندة في أحد أسسها إلى النقد والسؤال، وإلى عدم الاقتناع إلا في ظل وجود أدلة وبراهين عقلية. كما أن من نتاجات الحداثة والعلمنة ولادة مفهوم quot;الاختيارquot; وتوسّعه، حتى أصبح أحد أسس الحياة الجديدة. في المقابل فإن الجبر أو اللااختيار كان ولا يزال أصلا من أصول الحياة الدينية التاريخية وأساسا من أسس التديّن الفقهي التقليدي.

فالمسلم مكلف وغير حر في اختياراته، في حين أن الاختيار يتعلق بجميع مناحي الحياة العصرية. فالإنسان الحديث، الإنسان العلماني، بات حرا في اختيار دينه، وأيضا في تغييره إذا اقتضت قناعاته الفكرية والإيمانية. كما أن منظمات حقوق الإنسان، التي تعتبر شريان الحداثة، مستعدة للدفاع عن مطالبه تلك بكل ما تملك من قوة ونفوذ. في المقابل لا يزال التفسير الديني الفقهي التاريخي يعتبر مفهوم الاختيار شرا من الشرور، إذ لا يزال يعتبر تغيير الإنسان المسلم لدينه، أو لقناعاته الدينية السياسية والاجتماعية، يوجب عليه أقسى العقوبات في الدنيا والآخرة. فتمسك التفسير بمفهوم اللااختيار ساهم في انتشار الاستبداد السياسي والاجتماعي والفكري وغيرها. فلا اختيار للمسلم أمام أوامر وأحكام وقرارات وتكاليف الولي أو المرشد أو الإمام أو الفقيه الممثل للسلطة الإلهية على الأرض، وكذلك أمام أوامر ما يسمى بالمؤسسات التي تنبثق من تحت عمامته، فلا يحق له الاعتراض عليها أو يرفض تنفيذ أوامرها، وإلا سيواجه عقوبات دنيوية وتهديد بعقوبات أخروية.


إن العلمانية لاتعني فحسب فصل الدين عن السياسة، بل ذلك ليس سوى نتيجة من نتائجها، إنما هي تستند إلى علاقة وطيدة مع عالم الطبيعة والمادة وتبتعد ما أمكن عن عالم ما بعد الطبيعة.

هي توصي بعدم الإشارة إلى دور الدين في القضايا المتعلقة بالحياة الطبيعية، لأنها تعتبر الدين أحد عناصر ما بعد الطبيعة. بمعنى أنها تؤكد على إبعاد دور الدين عن الشأن العام، أي عن السياسة والاقتصاد والتعليم وغيره من المسائل. والشاهد على ذلك أن العصر الحديث شهد جهدا بشريا جبّارا في هذا الطريق، أي في طريق فصل مسائل الطبيعة عن مسائل ما بعد الطبيعة. وفي أمور السياسة وانتخابات مجلس الأمة لا يزال أنصار الطرح الديني يتعاملون معها استنادا إلى الإطار ما بعد الطبيعي، وهو ما جعل لغتهم غير علمانية، في حين أن العلمانية تُفصل الشأن الطبيعي عن الشأن ما بعد الطبيعي، وتستخدم لغة طبيعة للقضايا الطبيعية المادية البشرية، وتتعاطى مع مسائل ما بعد الطبيعة بلغة تصب في الاتجاه ما بعد الطبيعي. إن إنسان العصر الحديث يوصف بالعلماني لأنه استبدل أسباب الحياة الدينية بأسباب أخرى غير دينية، أي بأسباب علمانية. فعلى سبيل المثال، من أسباب نظافة الإنسان المسلم إتباعه الحديث النبوي الذي يقول quot;النظافة من الإيمانquot;، أي بسبب ارتباط النظافة بالإيمان لابد أن يكون المسلم نظيفا. في حين أن العلماني لايبحث عن أسباب النظافة في الحديث النبوي أو في النص الديني إنما يبحث عنه في العقل الطبيعي الذي من شأنه أن يوصله إلى تلك النتيجة حتى لو لم يتوفر في الدين ما يحث على ذلك. فالعلماني يعتبر النظافة حالة حضارية ومدعاة لتجنب الأمراض.


إن مختلف صور الحياة ومختلف مؤسسات المجتمع، الرسمية وغير الرسمية، من سياسية واقتصادية واجتماعية وخدماتية وتعليمية وغيرها، الموجودة في المجتمعات الدينية موجودة أيضا في المجتمعات العلمانية. إذن ما الفرق بين الاثنين؟ بمعنى أنه ما الذي يجب أن يميز المجتمع الديني عن المجتمع غير الديني؟ إن الذي يجب أن يميز أحدهما عن الآخر لابد أن يتعلق بالأسباب أو بالعلل. بمعنى أن الاثنين، العلماني والديني، يتوصلان إلى نتائج متشابهة بشأن معظم قضايا الحياة ومسائلها، لكن الأول ينفذ أفكاره وأهدافه انطلاقا مما يمليه عليه العقل البشري من أسباب دون النظر إلى رضا الله أو عدم رضاه، في حين أن الثاني ينطلق في تنفيذ أهدافه وأفكاره استنادا إلى دواعي رضا الله. لكن هناك فرقا كبيرا بين الطرح الديني والطرح العلماني، إذ الأول يعتقد، غصبا وزورا ومن دون أي دليل عقلي أو نصّي، بأن الدين يملك مشروعا متكاملا للحياة، وأنه quot;دين ودنياquot;. في حين يستند الثاني إلى العقل لا إلى النص الديني في رسم صورة الحياة المادية الطبيعية العقلية وفي تطوير مختلف جوانبها. وفي انتخابات مجلس الأمة تتجه جماعات الإسلام السياسي في الدعاية لمرشحيها انطلاقا من عبارة quot;التكليف الشرعيquot;، حيث تحث على عدم التصويت للمرشحين غير الدينيين، وبالذات للعلمانيين والليبراليين، وتؤكد على quot;حرمةquot; التصويت لهؤلاء لما فيه من quot;إثم ومعصيةquot; وquot;نشر للفسق والفجورquot; وquot;تعدّ على شرع اللهquot;. بمعنى أن تلك الجماعات تدخل ساحة الانتخابات من بوابة الطرح الديني وأدبيات المشروع الديني التاريخي ومن خلال الأسباب والعلل الدينية المتصلة برضا الله. في المقابل نجد أن الجماعات غير الدينية، العلمانية والليبرالية، تستند في ذلك إلى العقل والمصلحة والواقع، أي إلى الأسباب العقلية الطبيعية غير الدينية.

فاخر السلطان

كاتب كويتي
[email protected]