كان ينبغي أن نفرح بزيارة رئيس وزراء الشقيقة سوريا لبغداد وتوقيعه التاريخي على كل تلك الاتفاقات الهامة في جميع المجالات، وأهمها المجالان الأمني والسياسي، لولا ما تخفيه هذه الخطوة من أهداف غير أخوية وغير بريئة، خصوصا وأنها جاءت في سياق الجهد الإيراني المستميت لبناء الطوق الطائفي، إيران- العراق - سوريا، مع عضوين آخرين غير معلنين، هما حزب الله (اللبناني) وحماس.

إن حلف بغداد الجديد يعيد إلى أذهان العراقيين حشدا من الذكريات السوداء عن حلف بغداد القديم الذي كان الشرارة الأولى التي أحرقت الكرم كله على نوري الأول وحزبه ونظامه، وأدخلت العراق في نفق الاحتراب الدامي، من عام 1956 ولغاية اليوم، والخشية أن يعيد التاريخ نفسه، فيصبح الحلف الجديد نذير شؤم على نوري الثاني الذي تأملنا فيه خيرا وراهنا على وطنيته العراقية غير الطائفية وغير الحزبية الضيقة.

إن ما جعلنا نقرأ ما وراء سطور الحلف الجديد أن الرئيس الزائر quot; شدد على تمتين حلقات التعاون في المجالات كافة، مؤكدا دعم سوريا لجهود تحقيق الوفاق الوطني، إضافة الى تهيئة الظروف المناسبة لانسحاب القوات الاجنبية، بما يمكن العراق من استعادة دوره المحوري في المنطقةquot;. وهذا ما يوحي بأن الحلف الجديد ليس مجرد اتفاق طبيعي بين دولتين متجاورتين، ناهيك عن كونهما شقيقتين، يقوم على تبادل المصالح بينهما، مثل أي اتفاق آخر تفرضه المصالح العليا لكلا الدولتين.

ولعل ما ينغص على العراقيين فرحتهم بالحلف الجديد أنه كافأ الشقيقة سوريا على أمرين، الأول شطارتها السابقة في جمعها بين (صيف) الديكتاتور الراحل و(شتاء) معارضيه الكبار، أمثال المالكي والطالباني وبيان جبر وفخري كريم وغيرهم، والثاني قدرتها الحالية العجيبة على ممارسة النقيضين، تهريب المخربين والإرهابيين إلى العراق لقتل الأطفال وذبح النساء وحرق المنازل والمقاهي والمساجد والحسينيات، بحجة مقاومة الاحتلال والثأر للشرف العربي المهان في بغداد، مع المناداة، في الوقت نفسه، بالتضامن العربي القومي مع العراق، والحرص على أمن شعبه الشقيق.

إن المحزن في كل ما أحدثته الزيارة الأخيرة من تفاعلات أن السيد المالكي وضع، بتوقيعه على الحلف الجديد، نقاطه على حروفه، وأعلن بشجاعة وصراحة وبشكل حازم وحاسم أنه اختار الانحياز النهائي، وبلا عودة، إلى الطوق الطائفي الإيراني العراقي السوري، آخذا معه العراق إلى دوامة صراع نفوذ دولي وإقليمي محفوف بالمخاطر، لا ناقة له فيها ولا جمل. إضافة إلى ما سيجلبه هذا الحلف على العراقيين من عزلة، فوق عزلتهم الحالية الخانقة، وعلى المنطقة من مشاحنات ومقاطعات، وربما مواجهات غير مطلوبة وغير مبررة، ستدفع بنوري الجديد، بالضرورة، إلى نفس سياسة نوري القديم القائمة على حكم الفرد الواحد والحزب الواحد، واعتماد أسلوب المواجهة الدامية مع المعارضين، باعتباره الأبعد نظرا والأكثر وطنية من معارضيه، والحكم على مخالفيه بالخيانة والعمالة، الأمر الذي سيعيدنا من جديد إلى مربع الاحتراب الداخلي وجحيم المفخخات والأحزمة الناسفة والتهجير والتكفير، وسنجد أنفسنا من جديد في مواجهة الديكتاتورية وهي تعود إلينا بثياب ديمقراطية مهلهلة لا تستر عورتها الفاضحة.

ولعل أخطر ما سوف يجره الحلف الجديد على العراق من خسائر أنه سيوقف جهود الأشقاء العرب المخلصين الداعين إلى تشجيع التواجد العربي في العراق، وزيادة المشاركة العربية في عملية إعادة البناء والإعمار والاستثمار، وعدم ترك الساحة للنفوذ الإيراني المتزايد.

وحتى لو أحسنا الظن بالحلف الجديد وجردناه من أهدافه السياسية والعسكرية غير المعلنة، فإن توقيت توقيعه الآن بحد ذاته مغامرة غير موفقة، لأنها تتم في أجواء التوترات الحالية التي تحيط بالمنطقة، والتي تسبب فيها التجاذب الإيراني الأمريكي، وتهديدات إسرائيل بضربة عسكرية استباقية لمنشآت إيرانية حيوية قد تدفع بإيران إلى شن هجمات عسكرية انتقامية على مواقع ومنشآت وقواعد تحسبها مصالح أمريكية مهمة في المنطقة، وأقربها وأسهلها على إيران ما هو موجود منها في العراق، مع ما سوف يترتب على ذلك من هزات أمنية وعسكرية على الساحة العراقية الهشة التي لا تحتمل أي توترات جديدة من أي نوع.

كما أن المالكي بهذا التوقيع أدار ظهره نهائيا أيضا لكل آمالنا السابقة في تحوله إلى رجل دولة بدل رئيس حزب، وفي صدق تخليه عن طائفيته، وعزمه على انتهاج سياسة وفاق وطني حقيقي تنتج عنها جبهة داخلية متينة، حزامها الديمقراطية، ودرعها سلطة القانون. وبدل سياسة الأحلاف والمحاور كنا نتوقع منه أن يجنح، بجد أكبر ونية صافية وصادقة، إلى سياسة عاقلة ومتوازنة تعيد للعراق دوره الفاعل الإيجابي المنسجم مع محيطه العربي والإقليمي، دون محاباة لهذا ومعاداة لذاك من الجيران أوالأشقاء.

وبالإضافة إلى كل ذاك فقد أغلق المالكي، بحلفه الجديد مع سوريا وإيران، ملف مصالحته الوطنية التي ظل سنوات، هو ومستشاروه، يشغلنا بها وبأخبارها. وأكبر الظن أنه لم يعد يحتاج إلى مكاسبها الدعائية الفارغة، أو أنه حقق ما أراد تحقيقه منها من منافع تكتيكية مرحلية عابرة. وفوق كل ذي علم عليم.

إبراهيم الزبيدي