ثمة دعوات كثيرة طفحت على السطح في الماضي القريب، ولاسيما مع سطوع نجم المحافظين الجدد الألتر-نيو ليبراليين، والداعية بمجملها للأخذ وتبني الاقتصاد الليبرالي، وإصلاح اقتصادات quot;الدول المتعثرةquot; تاريخياً، وفق وصفة صندوق النقد والبنك الدولي واقتصاد السوق، أو السوء، ولا فرق، وهي فعلياً، الأذرع العملية الضاربة للإيديولوجية النيوليبرالية، واعتبار النموذج الغربي الليبرالي الحل الناجع والدواء الشافي لأمراض الدول النامية المزمنة والمستعصية.
ومن هنا، فقد أخذت الكثير من الجماعات السياسية، وتبنت أحزاب معارضة وتنظيمات وتكتلات وتجمعات سياسية وشخصيات فكرية وسياسية مستقلة ومتحزّبة، في المنطقة، هذا الخطاب الليبرالي، واعتبرته مرجعاً إيديولوجياً لها، وموجهاً لعملها، ومحرضاً لتحركها، وانضوت تلقائياً تحت تلك الرايات النيوليبرالية اعتقاداُ منها أنها الترياق لرزمة لعلل المزمنة اقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً، التي تعاني منها بلدانها. وقد ترافق ذلك، كله، مع تحولات بنيوية وهيكلية جذرية في التركيبة الإيديولوجية لتلك الجماعات والأحزاب والتنظيمات، وشهدنا تداخلاً وغموضاً إيديولوجياً في بنية بعض التنظيمات ذات الوجه الإيديولوجي المعروف، وبات من الصعوبة التمييز، أحياناً، بين الماركسي، والقومي، واليميني، واليساري، أوالمحافظ، والليبرالي والرجعي الأصولي. وأصبح الخطاب، أو بشكل أدق، quot;التقريعquot; النيوليبرالي، تحصيل حاصل ولازمة طبيعية في خطاب ما سمي في حينه جماعات الإصلاح والديمقراطية، باتت تسمعنا إياه على الطالعة والنازلة، ومن سبب ومن غير سبب، وهي التي كانت تتلقى دعماً كبيراً من الغرب، وبنت أحلاماً واسعة وفضفاضة لذلك، وعقدت لذلك الندوات، والتأمت المؤتمرات وأقيمت العراضات والاستعراضات للاحتفاء، وتبيان فوائد، وأهمية، وضرورة تناول ذاك الترياق.
ولكن وكما يقال فـquot; الحلو ما يكملشquot;، وسرعان ما شهدنا تحولاً دراماتيكياً وبنيوياً جوهرياً على جبهتي الديمقراطية والإصلاح كبح جماح وشبق التغيير السياسي والاقتصادي، على حد سواء، بعد أن هوت الرأسمالية النيوليبرالية، وظهرت عيوبها البنيوية الكارثية وانهارت هياكلها الاقتصادية المختلفة كالبنوك والبورصات والكارتلات والشركات العابرة للقارات بذاك الشكل المفجع الحزين، جالبة معها أسوأ الكوارث الاقتصادية الشاملة التي حلـّت على الشعوب والأفراد والأمم. وباتت، اليوم، في الواقع، الدعوة للالتحاق بذاك النمط الاقتصادي هي عبارة عن محض دعوة حقيقية، للانتحار الاقتصادي، ما يعني، أوتوماتيكياً، انتحاراً، ونهاية، على الصعيد السياسي، ومن ثم الاجتماعي، بالطبع،. ولذا تراجعت، اليوم، وتبدو الدعوات للأخذ بتلك الأنماط الإصلاحية والاقتصادية خجولة جداً. وبتنا، بالكاد نسمع عنها، بعد أن كانت تلعلع مدوية في سماء المنطقة، وانزوى شخوصها، وابتعدوا إلى الظل، بعد أن تبوؤوا مراكز ريادية وإعلامية بارزة، وصلت حد النجومية، ذات يوم في فضاء المنطقة السياسي.
وتلوح، اليوم، صورة مؤلمة ومحبطة وشديدة السواد، وتمكن صياغتها على النحو التالي، إذا كانت تلك التجارب الأممية quot;الناجحةquot; ذات يوم، غير قادرة، ولا تشكل أية ضمانة، وربما غير مؤهلة للنهوض باقتصادات بلدانها، بالذات، بعد أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم من وضع لا تحسد عليه، البتة، وقد جرت المآسي والويلات، وهي التي تملك البنية التحية المؤهلة لذلك، فكيف ستنفع وصفاتها العلاجية التلقينية مع بلدان أخرى، تفتقر، بالمطلق، لأبسط مقومات البنى التحتية المطلوبة للانطلاق بالاقتصادات نحو غاياتها الصحية المنشودة، وإذا فشلت، هناك، فكيف ستنفع هنا، وقد هوت على تلك الشاكلة والنحو المريع؟
وعلى الجبهة المقابلة، فقد فشلت، أيضاً، وانتهت تجارب الاقتصاد quot;المحافظquot;، أو الموجه، إلى ذلك الشكل المتواضع والحزين، أيضاً، والذي كان ما يسمى بالاقتصاد الموجه ذي المرجعية الاشتراكية التقليدية دليلها ومرشدها، عاجزاً وغير قادر بوضعها الحالي، وبما يملك من أدوات وآليات تقليدية ومترهلة، على النهوض وتحقيق أي قدر من التمنية.
وهنا، قد لا تتوقف مرارات الأسئلة المؤرقة، ولا تنفك عن الطرق المديد في لحظات من الشرود الطويل والتأمل العقيم. فماذا سيقول اليوم لنا منظرو الليبرالية والاقتصاد بعد صمتهم المريب هذا،وسبحان من أسكتهم، إذا كان الاقتصاد الموجه يؤدي إلى عجز وتباطؤ وشلل وكسل اقتصادي، وإذا كان الاقتصاد الليبرالي المنفلت من عقالاته يؤدي إلى كوارث اقتصادية، فأين الخلل بالضبط، وأي اقتصاد، هنا، نريد؟ لا بل أي الوصفات quot;القاتلةquot;، عندها، قد تفيد؟ وإذا كان لا مفر، ولا مناص، من تجرع إحداها، فأيها سيتكفل بحجم أقل من الكوارث القادمة، بكل تأكيد، فالكلام هنا عن أي بحبوحة، وازدهار، وعافية قد، بات، حكماً، في حكم الغيب والمستحيل؟
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات