عرضت قناة الجزيرة الفضائية القطرية و طيلة تسعة أسابيع حلقات متتالية من برنامج ( شاهد على العصر ) و تناولت فيها أحداث المغرب الساخنة أوائل السبعينيات من القرن الماضي و تحديدا محاولة الإنقلاب العسكري الأولى في تاريخ المغرب المعاصر المعروفة بإنقلاب قصر الصخيرات في العاشر من تموز/ يوليو 1971 و هو الحادث المؤسف و البشع و الذي قدر له أن يلعب دورا محوريا في التاريخ المغربي المعاصر بسبب التداعيات الكبرى التي أعقبت ذلك الحدث و المآسي التي ترتبت عليه، وكان البرنامج قد تناول الحدث من خلال مقابلة مع أحد صغار الضباط الذين شاركوا في ذلك الإنقلاب الذي خطط له و قاده رئيس ديوان الضباط في قصر المرحوم الملك الحسن الثاني الجنرال محمد المذبوح و نفذه ميدانيا و بطريقة متهورة و دموية و بشعة قائد المدرسة العسكرية في إقليم الحاجب الكولونيل أمحمد إعبابو أو ( نابليون المغربي ) كما كان يسميه أقرانه بسبب قصر قامته و لكونه وقتها أصغر عقيد في الجيش الملكي المغربي، و كان ذلك الضابط الذي تناول الحدث و تحول لأحد ضحاياه فيما بعد هو الملازم أحمد المرزوقي الذي حكم عليه بالسجن لخمسة أعوام ليقضي في السجن السري الصحراوي الرهيب الواقع في إقليم الرشيدية على تخوم الصحراء و المدعو ( تازمامرت ) أكثر من ثمانية عشر عاما كانت حافلة بصور الموت المتجدد و المتجسد كل يوم، ففي صيف عام 1973 صدرت الأوامر العسكرية الخاصة بنقل كافة المحكومين بالسجن في قضيتي الصخيرات عام 1971 و إنقلاب الطائرة الملكية الثاني 1972 لسجن عسكري خاص و كان عدد المرحلين حوالي 59 شخصا إنقطعت أخبارهم عن العالم تماما إعتبارا من فجر يوم 7 أغسطس 1973 و لم يعود للدنيا من تبقى منهم حيا إلا في يوم 15 سبتمبر 1991!!

بعد أن تغير شكل العالم بالكامل و بعد العفو الملكي الخاص الذي أنهى ذلك الملف المؤسف بالكامل و أدخل القضية في معالجات جديدة بعد أن إعترفت الدولة بمسؤوليتها الإنسانية و الأدبية عن التجاوزات وهي حالة فريدة في العالم العربي، حيث قام الملك الراحل الحسن الثاني بتدشين خطوات تصالحية مع الماضي مسدلا الستار على الفصول الرهيبة منه و متعهدا ببداية عقد تصالحي جديد في إطار المصالحة الوطنية مع الذات، لا شك أن الضحايا الذين عانوا من آثار الإنقلابات العسكرية و المغامرات السياسية ليسوا فقط من أودعوا في السجون أو المعتقلات، بل أن أطرافا عديدة نالها العسف و الأذى بدءا من القتلى الأبرياء الذين لا ذنب لهم في مجزرة قصر الصخيرات حينما فتح الإنقلابيون النار عشوائيا على المئات من الحاضرين ليقتلوا العشرات و ليسببوا مآسي إجتماعية مريعة لم يكن هنالك ما يبررها، فكراهية النظام لا تستدعي أبدا سحق الأخضر و اليابس و قتل كل شيء يتحرك، صحيح أن الجنود قد نفذوا أوامر عسكرية صارمة وبإنضباط عالي إلا أنهم كانوا يعلمون أنهم لم يكونوا في ساحة حرب ضد عدو أجنبي بل في موقع سيادي و مدني و معروف للجميع بكونه القصر الملكي!!

كما أن الناس الذين قتلوا على موائد الطعام لم يكونوا في وضعية قتالية بل كانوا في حالة إسترخاء تام!! المهم أن ما حصل من بشاعات كان لا بد أن يترك تفاعلات كبيرة على الواقعين السياسي و الإجتماعي في المغرب، و قد تابعت إهتمام المغاربة بالحلقات التي بثتها قناة الجزيرة و كأنهم يعلمون بها لأول مرة!!!؟ رغم أن الدولة المغربية ذاتها و النظام الملكي المغربي هو من سمح بنشر الحقائق الكاملة، و هو من تحلى بالشفافية المطلقة في عرض الأمور دون خوف أو خجل أو تردد و كل الأحاديث و الروايات التي ذكرها السيد أحمد المرزوقي و أدمعت عيون أحمد منصور ( يا ضنايا ) موجودة و مسطرة في كتب تباع منذ سنوات في الأكشاك و المكتبات المغربية و أحدها كتاب المرزوقي نفسه ( الزنزانة 10 )!!

و الذي قرأته منذ سنوات إضافة للكتاب الأول الرائد في كشف عوالم و فظائع تازمامرت وهو كتاب السيد ( محمد الرايس ) تذكرة ذهاب و عودة للجحيم!!، إضافة لمئات المقالات الصحفية و المذكرات المنشورة في الصحف المغربية الكثيرة و المتنوعة التي تناولت أحداث المغرب المعاصر كالمساء و الأحداث المغربية و الأيام و الصحيفة و النهار و الصحراء و غيرها الكثير... إذن ليس في الأمر إكتشاف خطير إختصت به قناة الجزيرة أو تميز به أحمد منصور، فلو أن الدولة المغربية لم تسمح بنشر تلك الوقائع لما وجد من ينشرها أصلا فضلا عن أن يقترب من حافاتها، لقد تحدث المتضررون على راحتهم بالكامل و نسوا أنهم حينما عانوا ما عانوه لم يؤخذوا من بيوتهم ظلما بل لكونهم كانوا مشاركين في إنقلابات عسكرية إتسمت بالدموية المفرطة!!

و لو أن ما حصل قد حصل في بلدان مشرقية أخرى لفنيت حتى عوائل المشاركين في الإنقلاب و حتى الدرجة العاشرة من القرابة!!، ومع ذلك إمتلك النظام السياسي المغربي جرأة تناول الحدث و الإفصاح عن كل وثائقه و خفاياه بل و تحمل المسؤولية القانونية عن التجاوزات التي تحصل في أرقى ديمقراطيات الدنيا فما بالك بنظام عربي خرج عن كل السياقات المعروفة و أمتلك الجرأة على محاسبة الذات و تصحيح الأخطاء و البدء بتدشين مرحلة جديدة لا تتسم بالكمال قطعا و لكنها تحاول أن تكون في مستوى المرحلة و المتغيرات الدولية، أكرر كل ما حصل معروف و منشور و بمبادرة من السلطات المغربية، فالنظام الملكي المغربي ليس لديه ما يخشى منه مطلقا! و هو بهذا التصرف قد أبان عن ثقة مطلقة و كبيرة بالنفس و بالمؤسسات التي بقيت صامدة رغم عواتي الزمن و شدة التحديات، و كان الملك الحسن الثاني هو الصورة الحقيقية لعقلية التغيير، فهو الذي جاء بأبرز معارضيه من الذين حاولوا الإنقلاب عليه و المحكوم بالإعدام لأكثر من مرة و هو المناضل عبد الرحمن اليوسفي ليترأس حكومة تناوب في عام 1998 كانت بمثابة تجربة فريدة لم تتكرر كثيرا في عالمنا العربي و الشرقي تحديدا!!

و إن كان ثمة شكر فهو لا يوجه لقناة الجزيرة التي ركبت الموجة بعد سنوات من الكشف عنها و نشر كل وقائعها علنا و على قارعة الطريق، بل يوجه للخطاب العقلي و السياسي المنفتح للمؤسسة الملكية المغربية التي تجاوزت الأحداث و أثبتت أن المصالحة مع التاريخ و النفس ليست بالمهمة المستحيلة و إن الإعتراف بالخطأ هو الطريق الصحيح لحماية الأوطان.

داود البصري

[email protected]