تتأسس نظرية الاحصاءات السكانية العامة في كل بقاع العالم، وعلى اختلاف فلسفات النظم الحاكمة، على هدف توفير قواعد بيانية للمجموعات السكانية ينتظم على اساسها وضع الخطط التنموية المتعلقة بالبنيان الاقتصادي والمعرفي والاجتماعي، وعلاقتها بحاضر تلك المجموعات ومستقبلها.
لكن، مما يؤسف له، في بعض البلدان النامية، ومنها العراق، انها اخضعت الاحصاءات السكانية لمآرب سياسية محضة. بل وادخلتها في جب الادلجة ضيقة الافق حيث الانزياح المقرر سلفا لشريحة على حساب شرائح، مع اغفال حقيقة ان النمو الاجتماعي والثقافي عند اية مجموعة سكانية مهما شكل عديدها من اقلية قياساً لقريناتها في اي بلد، لا يمكن ان يخضع لتسييس الاحصاءات، لأن النموالطبيعي أمكث في الارض من المخرجات الاحصائية المسيسة، فلم يحدث ان محا احصاء ما مكوناً ما من مكونات اي مجتمع عمدت سلطاته الى الاحصاءات المسيسة والمبيتة القصد والنتيجة.
ولعل الاهتضامات التي لحقت بمكونات شعبنا العراقي جراء الاحصاءات المسيسة من جهة وخطط التغييرات الديموغرافية لبعض المناطق، ومنها كركوك وسائر المناطق ذات الاغلبية والثقافة والجذور التركمانية،من جهة اخرى، واحدة من ابرز الشواهد الدالة على عقم التعاطي المؤدلج مع الاحصاءات، والخروج بها من دائرة نظريتها الاساسية الى دائرة الانقياد للنزوع الشوفيني ومطامح السيادة والهيمنة والنفوذ والغاء الآخر عند بعض الذين قبضوا على زمام الحكم من قبل، وعند بعض الذين يقبضون عليها الآن وخاصة في حكومة الحزبين الكرديين في الشمال، وبسبب ذلك، اضافة الى المناهج والآليات والطرائق البدائية في اجراء الاحصاءات، وحساسية بعض مكونات شعبنا من نيات الحكومة، والتخلف الاجتماعي، فقد فشلت جميع الاحصاءات العراقية في توفير قواعد بيانية حقيقية متطابقة تماماً مع لغة الواقعة المجتمعية على الارض.
واي فاحص منصف لمخرجات تلك الاحصاءات لا يجد عناء في كشف ما اعترتها من نواقص جلية ظاهرة في ابسط مفاتيحها مثل نسب الذكور والاناث والاعمار والولادات والوفيات والمهن، ومرد ذلك، يقع في جانب منه، على المنهج المؤدلج للاحصاءات من جهة، وعلى ريبة السكان من نيات الحكومة، او تخوفهم من التجنيد الاجباري وتهربهم من الضرائب، او تحسبهم من الملاحقات او فقدان فرص الوظائف والاعمال تحت هاجس الانتماء القومي، اضافة الى انعدام الوعي المجتمعي في اهمية الاحصاءات الراهنة والمستقبلية في الحفاظ على المكون وحقوقه واستحقاقاته الطبيعية.
واذا كانت مفاتيح بسيطة مثل هذه قد اعتراها الوهن في الاحصاءات العراقية السابقة، فما بالك بمفاتيح مهمة مثل اعداد القوميات؟
لو امعنا النظر الى التعدادات السكانية العراقية السابقة وفحصنا مخرجاتها في ما يتعلق باعداد التركمان لوجدنا العجب العجاب.
ففي احصاء عام 1977 بلغ عدد نفوسهم (137 ألف نسمة) وفي عام 1987 بلغ (116ألف نسمة) وفي العام 1997 بلغ (72ألف نسمة) ومثل هذا الانحدار المهول في الاعداد يخالف المنطق الطبيعي للنمو العددي من جهة، وعدم حدوث هجرات اختيارية او قسرية بحجم هذا الانحدار، مما يعني ان فلسفة تلك الاحصاءات المؤدلجة كانت ترمي الى احداث مغايرة ممهدة لألغاء هذا المكون الاساسي والاصيل من مكونات الشعب العراقي او تعطيل توقه الى نيل حقوقه الطبيعية في ابسط حال.
واذا كانت سياسات التعريب في كركوك قد جرت في السابق بوتيرة راعت خشية افتضاح مقاصدها وغايتها، فأن سياسات تكريد كركوك التي جرت منذ الايام الاولى لوقوع الاحتلال لم تتردد في ان تجري بوتيرة سريعة جداً بلغت حد الاكتساح العشوائي لمدينة كركوك وضواحيها بأكراد استقدموا من بعض دول الجوار، وتزامنت مع تزييف الوقائع والاحصاءات المعتمدة في المحافظة واتلاف الوثائق المهمة والمستندات والسجلات والبيانات التي يمكن ان تشكل قرائن لدحض المزاعم الكردية.
وامر مثل هذا يضع الدعوات لاجراء احصاء سكاني في كركوك، في هذه الفترة بالذات، ليس موضع الريبة والشكوك فحسب وانما موضع الرفض المطلق، لاسباب موضوعية عديدة لعل اهمها:
اولاً : الاختلال الهائل في وقائع الارض والتزييف الكبير الذي لحق بها نتيجة السياسات الشوفينية المؤدلجة، السابقة منها، والقائمة الآن، مما يقوض المصداقية الموضوعية والوقائعية والتاريخية لأي احصاء يقوم دون محاولة جدية وصادقة وامينة لمعالجة الاختلالات البنيوية في التركيبة السكانية نتيجة زحوفات التغيير الديموغرافي الماضية واللاحقة.
ثانياً : ان ادراج حقل (القوميات) في النماذج الاحصائية محاولة لتكريس مبدأ المحاصصة المقيت، ومن ثم توفير حاضن موضوعي لتقسيم الوطن على اسس قومية شوفينية بابعاد وغائيات تمهد لاحداث تغيير في الجغرافيا السياسية في المنطقة برمتها.
ثالثاً : عدم توفير الحاضن الجغرافي النقي للشعب التركماني نتيجة للزحف السكاني من قبل المكونات العراقية الاخرى لغرض تغيير ديموغرافية المناطق التركمانية تاريخاً وثقافة ووجوداً.
رابعاً : وجود السلطة القابضة على الارض من قبل ميليشيات بعض الاحزاب القومية ذات النهج العنصري، الذي يهدد سلامة ودقة الاحصاء من تدخلات شوفينية معدة الغرض والنتيجة سلفاً.
النتائج المتوقعة :
من المسلم به ان نتائج اي احصاء سكاني اخطر من نتائج اية انتخابات لان الاولى ثابتة الى زمن منظور وآخر بعيد والثانية متحولة من دورة الى اخرى، ولذا فان لنتائج الاحصاءات تأثيرات عميقة الاثر على مصائر الشعوب او المجموعات الاثنية اذا ما جرت في ظل اجواء غير صحية وتشوب نقاءها نزعات شوفينية ومهيمنات سلطوية ويمكن الاشارة الى ان من بعض نتائجها الخطيرة ما يلي :
اولاً: قدرتها على تحويل الاكثرية في جغرافيا ما الى اقلية ومحق الحقائق التاريخية والثقافية والوجودية والموضوعية.
ثانياً : تحويل استحقاقات المجموعات المتحولة من اكثرية الى اقلية لحساب مجموعات اخرى خلافاً للغة الواقع.
ثالثاً : بالتقادم الزمني يمكن ان ينصهر قسم من هذه المجموعة في بودقات المجموعات القوية او النافذة.
رابعاً : محق وازالة الشواخص التاريخية والثقافية والمجتمعية ومسخ الهويات المناطقية الثابتة.
خامساً : شيوع حالة من الحرمان والمظالم والتهميش ومن ثم الاقصاء
آيدن آقصو
التعليقات