بحكم تواجدي الطويل في السويد، تعودت يومياً شرب ما لا يقل عن كوبين من القهوة. وليس فنجانين، لأنها قهوة إفرنجية خفيفة فلا بد من متسع لغزارتها عكس عدوتها العربية الثقيلة وبالقنطار..

غالبية أوقاتي عند زيارتي العراق أخيراً قضيتها في منطقتي الحبيبة. شارع الكفاح وبالذات عند صديق العمر صباح أبو الجرائد. أبو النفس الطيبة. الذي كان ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً ولايزال يقرض الصحف والمجلات لأبناء المنطقة لقراءتها ومن ثم إعادتها إليه دون أن يطالبهم ثمناً على ذلك. ويترك العطاء لمن أراد..

رغم كثرة المقاهي في كل شارع الكفاح دكاكين وعلى الأرصفة فلا تجد ولا في واحدة منها قطرة قهوة التي أخذت المقاهي تسميتها منها..

شكوت لأصدقائي لهفتي لشرب فنجان قهوة ولو كانت عربية رغم عدم إستساغتي لشكل بقاياها في قعر الفنجان.
جنك على كَهوة باللهجة العراقية تعني. لن أدعك دون أن اُلبي طلبك..


قالها لي صديق طفولتي علي حافظ ومن ثم جرني من يدي لنسير سوية في الزقاق الذي يوجد فيه مسجد. قبل دخولنا صحت به. شنو جايبني للجامع. ليش إنت مو تعرف آني ما أصلي؟! أي (لماذا تأتي بي للجامع وأنت العارف بعدم إدائي للصلاة ).
رجاني السكوت كي لا يسمعنا الذين يهمون بالدخول إلى المسجد وهو يهمس في اُذني..
إنت مو إتريد تشرب كَهوة؟؟
أجبته بنعم..

فقال. إهنا أكو فاتحة مال واحد متوفي. وبالفاتحة يوزعون السم إللي قاتل نفسك عليه ( يعني القهوة ) يالله أدخل وأقرأ الفاتحة وبعدين يجيبولك السم مالتك. وهم إتحصل على ثواب!!!!.

قلت له. زين اليوم شربت الكَهوة هنا ولكن باجر وين ألكَيهة؟؟؟!!! أي. إذا اليوم شربت القهوة هنا فبالغد أين أجدها؟
أجابني بخبث. هم هنا! أي. أيضاً هنا!

قلت كيف؟
قال لك. يومية واحد يموت. وهذا يعني يومية فاتحة!!
قلت ولكني لا أعرف المتوفين فكيف لي أن أحضر فاتحة من لم يكن لي به معرفة سابقاً؟!!
قال لك إنت متصلي. يمكن من تجي للفواتح ألله راح يغفرلك ولو شوية. وهم تشرب ( السم ) مالتك. أفتهمت هسة؟؟!!!
ولجنا المسجد وأخذنا مكاننا على أريكة وسطه ونادينا بالفاتحة. قرأ الجميع عالعادة معنا سورة الحمد. وهكذا يحدث في مثل هذه المناسبة الأليمة.

بعد إنتهائنا من قراءة السورة. صار لزاماً علينا أن نرد على سلام الواقفين في صدارة المجلس من أهل وأقرباء المتوفي وكذلك جموع الحاضرين. ب. ألله بالخير ألله بالخير. ألله بالخير ولمرات عديدة.

ثم جاء النادل الذي معه مبتغاي. القهوة. صب منه قليلاً في الفنجان. طلبت منه الإزادة. قال سأسقيك حتى تكتفي بالتوالي. ثم مده إليّ. مددت إليه يدي وتلقفته منه بشوق الولهان لحبيته. وإذا بالنادل ينزل رأسه ليضع فمه في اُذني هامساً. شوف لو موعيب وآني ما أعرفك. جان هسة جبيت دلة الكَهوة على راسك وطلعتك من الفاتحة. أي ( لولا الخجل لدرقت القهوة على رأسك وطردتك من المجلس ).

قلت ليش؟ لماذا؟
قال ليش ماتعرف إشلون أخذت الكَهوة من إيدي؟ أي ( ألا تعلم بالطريقة التي تناولت فنجان القهوة من يدي؟ )
قلت شنو قصدك؟ ماذا تعني؟

قال لقد أخذت القهوة مني بيدك اليسرى وهذا لا يجوز في عرفنا!!!
قلت أني أحس بآلام في كتفي الأيمن ( قلت الحقيقة ) لذلك قدمت يدي اليسرى. هنا تدخل أبو البلاوي صديقي علي حافظ ليؤكد له كلامي..

يبدو أن صاحبنا النادل لم يصدق الحقيقة. ورفض ملأ الفجان ثانية بالقهوة رغم عدم ( هزي ) له. وتجاوزنا إلى الآخرين..
في بداية روايتي هذه ذكرت دون قصد جملة ( لأنها قهوة إفرنجية خفيفة عكس ( عدوتها ) العربية الثقيلة.. ). وها أنا أهم لكاتبة ختامها أكتشف أن الجملة لم تكن إعتباطية بل لا بد منها لدلالة على أن رغم خفة القهوة الإفرنجية فأنت تحملها بكلتا يديك. ( اليمين واليسار) أما العربية فلا سوى ( اليمين ) لحمل ( ثقلها )..!!!!!!


حسن أسد