اليوم غزل وغداً أمر، وليس بالضرورة وصالُ! وهذا ما أدركته إيران ولم تدركه الولايات المتحدة. وعلى أساس أن السلام بات على قاب قوسين أو أدنى من التحقق واستدراكاً لتخوف وقلق قد ينشأ لدى بعض الدول المؤثرة في العالم العربي كالسعودية ومصر، من احتمال تدبير صفقة ما مع سوريا وإيران على حسابها بادرت إدارة أوباما إلى إرسال موفديها في جولة تطمينية على هذه الدول المحورية. فكانت زيارة وزير الدفاع روبرت غيتس إلى مصر والسعودية تلتها زيارتي وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت ودايفد هيل إلى بيروت... والحقيقة أن هذه الهرولة لم تكن ضرورية إلى هذا الحد كون الغزل مع سوريا وخاصة مع إيران شكله متعثر ولا يماشي أحلام أوباما بالنهاية السعيدة الوشيكة.

وذلك استناداً للمستجدات السياسية على الساحتين الإقليمية والدولية، والتي بدأت تشير إلى برودة في حماوة هذا الغزل، نتيجة تراجع سوريا وإيران، عن مواقفهما اللينة السابقة، مواكبة للتراجع المماثل الذي طرأ على المواقف الاسرائيلية في الآونة الأخيرة. في كل الأحوال يبدو أن الجانب الإيراني مرتاح على وضعه، إذ لا تظهر من قبله بوادر القلق حيال حظوظ تحقيق مشروع إحلال السلام العادل على أساس الدولتين في القريب العاجل، والذي يشكل في حال نجاحه أعظم خطر وتهديد للجمهورية الإسلامية الإيرانية ولاستمرارها.

وارتياح الجانب الإيراني هذا ليس نابعا من متانة أو صلابة الأوضاع الداخلية، إذ ليس خافياً على أحد مدى هشاشتها وخاصة من الناحية الاقتصادية، إنما من إتقان قائدها وبراعته في لعبة الشطرنج والتي تعلمك كيف تحيك الفخاخ لخصمك حتى ترميه خارج اللعبة عندما تريد. ولا أدرى إذا كان الرئيس نجاد يجيد فعلاً هذه اللعبة، ولكن الأكيد أنه يجيد ممارسة السياسة بروح هذه اللعبة. لذا قد تكون العبرة في دعوة الجميع إلى الانكباب على تعلم هذه اللعبة من أجل تشرب مكرها وألاعيبها، ضرورة استباقية لمواجهة مواقف نجاد في الالتفاف والمواربة والتنصل السريع والخفيف من المواقف المحرجة.

وقد لا يكون آخر نموذج لألاعيب هذه الممارسة ما قام به اللاعب الأول أحمدي نجاد والذي من خلال لقائه مع زعيمي حركتي حماس والجهاد الإسلامي خالد مشعل ورمضان عبدالله شلح، حيث أبدى نوعاً من الشماتة تجاه ضعف وركاكة سياسة الولايات المتحدة الأميركية الجديدة من ناحية أنها تركز سياستها على ردة الفعل بدل الفعل، والتي من المفترض أن تكون نابعة من تخطيط وقرار مسبقين، لآ أن تتشكل بموجب ردات الفعل على سياسة الآخرين. فدعا القائدين الإسلاميين إلى التمسك بالمقاومة إقتداءً بتمسك إيران ببرنامجها النووي. قائلاً: quot;بأننا لو لم تتمسك إيران ببرنامجها وتراجعت عنه لفقدنا عنصر القوة عندنا وانهزمنا أمام أميركا. وأضاف quot;أنظروا كيف يركض الأميركيون وراءنا ووراء السوريين اليوم، وذلك جراء صمودنا أمام كل الضغوط.quot;وهو سارع إلى دمشق ليس بدافع الخوف من الانعكاسات السلبية للغزل الأميركي باتجاه سوريا على العلاقة الإستراتيجية القائمة بين إيران وسوريا، ولكن بسبب مواقف خالد مشعل والذي دعي إلى الليونة والتهدئة ولوقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل، وهو كلام نقلته عنه صحيفة quot;النيويورك تيمزquot; الأميركية عن حوار أجري معه وعلى مدى يومين واستمر خمس ساعات. ومن أهم النقاط التي وردت في هذه المقابلة التي أجريت معه في مقره في دمشق، إعلان قال فيه ما يلي: quot;إنني أتعهد للإدارة الأميركية والمجتمع الدولي بأن أكون جزأً من الحل، بشكل نهائيquot; كما دعا العالم الخارجي إلى تجاهل ميثاق حماس: quot;الداعي إلى محو إسرائيلquot;. أما الموقف الخطير الثاني والذي هو الآخر ربما حمل الرئيس الإيراني إلى التحرك بسرعة باتجاه دمشق فلقد جاء على لسان الرئيس السوري، الذي دعا فيه الولايات المتحدة، إلى التحاور مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله اللبناني quot;بشكل مباشر أو غير مباشرquot;. وجاء نجاد إلى دمشق للتصحيح الخلل في أصول اللعبة، ولإعادة الأمور إلى إطارها الصحيح، ولشد أواصر المقاومة الإسلامية حتى لا يتم التفريط بها في المفاوضات الجارية، خاصة عن غير يده.

ودون أن ندخل في تقييم تفاضلي فيما بين سياسة الولايات المتحدة وسياسة إيران من ناحية إتقان لعبة الشطرنج أو سواها من الألاعيب، يبدو وكأن المثل الشعبي العتيق بات هو الأصلح والأصح في عالم السياسة اليوم، والقائل بأن quot;الفاجر يأكل مال التاجرquot;. وبالتالي أن تمتلك إيران القدرة النووية، وأن تتمادى وتحلل احتلال الأهواز بحجج واهية، وأن تتدخل في العراق، وأن تحتل الجزر الإماراتية بذرائع همايونية، وأن ترغب بإعطاء الدروس للمغرب العربي، وبتربية جمهورية مصر العربية، وأن تتدخل وتهيمن على القرار السياسي في لبنان هو أمر واقع ووارد، ما دام رئيس هذه الجمهورية قادر، وتؤمن له الفرص لاعتلاء أهم المنابر العالمية، من أجل توجيه التهم والنعوت وكيل الشتائم لمن يحلو له، ولمن لا يشاركه في الرأي والموقف. وهو نهج يعني أن هذا الأسلوب في التعاطي السياسي له توصيف واحد دون سواه، اسمه سياسة quot;فرض الأمر الواقعquot;. وعلى كافة الفرقاء، وعلى الأصدقاء والحلفاء قبل الخصوم. فرض للأمر الواقع يقوم بواسطة ألاعيب المكر والدهاء، ويعني أن تعرف كيف تتراجع أمام حليفك أو خصمك حتى تنجّر له من دون أن يشعر فخا توقعه به من دون أن يدري. وبما أن لعبة الشطرنج هذه برهنت عن فعاليتها حتى الساعة مع الولايات المتحدة الأميركية، لا بد من اعتمادها من قبل المعنيين في عملية السلام في الشرق الأوسط، ما دامت الأحادية الأميركية هي المسيطرة، وفي ظل عدم وجود أي تكافؤ في موازين القوى على المستوى العالمي.

مهى عون