في صيف عام 1978،كنت متدربا ً في معمل ألمنيوم الناصرية الذي أنشأه الفرنسيون بموجب عقد اقتصادي حكومي مشترك، وقد دربت الشركة الفرنسية كوادر عراقية قبل أن يتم البدء بعمل المصنع، كوادر عراقية من مهندسين وملاحظين عمل أشرفوا على العمل والإنتاج قبل أن يتم تسليمه نهائيا ً الى الحكومة العراقية أي وزارة الصناعة، كان المدير الفني لمعمل الألمنيوم اسمه ( استاذ فاضل )، وفاضل مهندس بارع وحيوي فقد كان يرتدي بدلة العمل الملوثة التي يرتديها العمال ويصول ويجول بين دويّ الماكانات شأنه مثل أي عامل مسكين غير ماهر، فقد كان الرجل متفتحا ً ضحوكا ً أو شيوعيا ًحسب الإشاعة، فهو لايحب المكاتب، لكنه كان (مدخنا ً ) للسيكاير (باكيت بغداد ) وبشكل أن لاتفارق السيكارة فمه، وكان أن وقعت إحدى النقابيات بـ(غرامه) من جانب واحد، والنقابة في العراق آنذاك تعني سلطة حزب البعث في المعمل والمصنع والإدارة، وبعد تحرشات وإغراءات غير مجدية تجنبها المهندس فاضل، كتبت النقابية تقريرا ً خطيرا ً عن مديرها الفني، أنه قد شتم بغداد عدة مرات أثناء العمل وهويقصد الحكومة وأيدها زعيمها الراغب بها البعثي رئيس النقابة، أقتيد بعدها المدير الفني الى السجن ومحكمة الثورة لكي يتلقى حكما ً بالسجن لمدة خمسة أعوام بتهمة قدح وذم الجمهورية العراقية والقيادة،وكان فاضل يصرخ،كنت أسب واشتم (سيكاير بغداد) لأنها رديئة الصنع ومغشوشة التبغ، سمعت بعد حين أنه تم اطلاق سراحه، وقد تزوجت النقابية رئيسها النقابي بعد ذلك. ولا أعرف مصير الجميع حاليا ً كما هو ودي وارتياحي.


غرز البعثيون العراقيون ثقافة الوشاية بين العراقيين خاصة أثناء حربهم مع إيران بحجج الوطن الغالي والعرق الناصع عبر تثقيف شعبي شديد التركيز،حتى بات على الأب أو الأم أو (رئيس العائلة) أن لايتكلم شيئا ً سياسيا ً وإجتماعيا ً وإقتصاديا ً عن ما يجري وأن يلثم فمه أمام التلفزيون الذي يعرض جولات وصولات السيد الرئيس،وقد تم الحكم مجانا ً على الاف من البشر بتهم مختلقة غير سياسية اطلاقا ً لأسباب اجتماعية ونزاعات عائلية،وقد خرج رئيس جمهورية العراق نفسه ليكرم أبا ً مقعدا ً قام حسب (الوشاية ) بقتل ابنه الفار من الحرب،وكان الخلاف عائليا ً محظا ً،لكنه ُدبج على أن الأب العراقي العاجز هو يدافع عن العراق افضل من الأبناء الأقوياء الذين يهربون من مواجهة العدو،لذلك وجب عليهم القتل حسب الوشاية التي يريدها الإعلام الحربي الفاشي.


تمت مقابلتنا من هيئة استرالية في مخيم رفحاء العراقي في السعودية بعد تحرير الكويت أوائل عام 1994، وشرحوا لنا أنه قد تم قبولكم كلاجئين في استراليا وسوف يتم اعادة استيطانكم ولكن عليكم فهم أن البلد أي استراليا بلد مفتوح وتعيش فيه اكثر من 150 قومية ودين ولغة، وان ثقافة التسامح وقبول الآخر هي الأساس في تقدم استراليا،وجميعنا نهز رؤوس الموافقة،لكنا في الداخل نقول ( هسه اخذونه وشوف شنسوي ) !!، وهذه حقيقة انسانية غير شاذة، أنت عليك أن تحصل على ما تريد، ثم تفعل حسب الضمير، والضمير نسبي وغير موجود علميا ً،كان على الأستراليين أن يثقفونا بعدم ممارسة ( النفاق والدجل )، وأن يتم اضافة فكرة التسامح مع عدم الطعن بالظهر.


في استراليا تنبه العراقيون الجدد خاصة، أن ثقافة الوشاية والطعن السلبي بالرفاق والأصدقاء السابقين غير مفيدة،بل ليست لها وجود،فتم استخدام (الإشاعة ) معتمدين على مقولة استرالية غربية تعني القيل والقال (GOSSIP)، التي تعني الإنهماك فيما يقوله الناس عن الآخرين،متناسين أن ذلك قد يؤدي ببساطة الى خراب سمعة أو بيت،متحججين بالقانون الأسترالي الذي لايعاقب على القيل والقال،فمجرد أن يختلف عراقي مع عراقي على عمل معين حتى يكون بعد ذلك أن أمه زانية واخته كذلك وزوجته كذا وابنه كذا وابيه كذا وابن خاله كذا وصولا ً لأموات دفنوا قبل أن أن يولد المتعاركان وفي النهاية يكون أحد الطرفين بعثي أو صدامي أو اسلامي متعصب أو مسيحي متعصب أويهودي صهيوني....الخ ولله المشتكى.


يصف بدر شاكر السياب مخبرا ً سريا ً فيقول (لسانه حبل ُ غسيل ٍ في الضحى )، أحمد الله أن لدي مجفف الكتروني للملابس والأقاويل وليس حبلا ً وتقارير.

واصف شنون