إن المعارضة كلها، بكل أنواعها وأشكالها، لا تهز شعرة من رأس أصغر وزير أو غفير في المنطقة الخضراء).
هذه العبارة ليست لي، بل هي بعض ما صعقنا به وزير عراقي يتربع منذ سنوات على عرش وزارة سيادية مهمة، جمعتنا به وليمة غداء سياسي في عمان، بحضور سبعة من رجال الأعمال العراقيين المقيمين في الأردن. ولولا خشيتي من أن أتهم بخيانة الأمانة لصرحت باسمه وبأسماء زملائي الذين حضروا تلك المحاورة النادرة.
قال، تعليقا على بعض مقالات نقدية كان قد نشرها أحد الحاضرين في جريدة عربية خليجية، quot;إننا نرحب بالنقد، ولكن إذا كان بحدود المعقولquot;. واختلفنا معه في تحديد هذا المعقول. فما يراه هو غير معقول نراه نحن المواطنين (البطرانين)، كما وصفنا السيد الوزير، مداعبة بريئة لا تقتل رئيسا ولا تخطف وزيرا ولا تنسف برلمانا ولا قصرا من قصور أسلافهم العامرة، نتسلى بها من قلة الحيلة، ومن حرقة القلب على وطن لم نذق طعمه أبدا، لا حين كان رفاقنا معارضين، ولا حين تحولوا إلى حكام. وعليه فليس مقبولا من وزراء حكومتنا الرشيدة أن يضيقوا ذرعا بما نكتب، وينكروا علينا حتى أضعف إيماننا. فلهم المناصب والمراتب، ولأولادهم وأبناء أعمامهم وأخوالهم جميع الشركات والصفقات والمصفحات والمزارع الوارفات، ولنا الكلام الفاضي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
خصوصا وأن السيد الوزير أعلن في تلك الجلسة، ولم يستح من أحد، أنه لا يقرأ شيئا مما نكتب، ولا يسمح لمعاونيه بنقله إليه، لأن وقته لا يتسع لهذه الخزعبلات.
خضنا جدلا معقدا طويلا مع السيد الوزير حول مفهوم الحرية والسلطة والمعارضة، وحدود كل منها في أنظمة الحكم الديمقراطية. فأصر هو على أن شعبنا مازال لايصلح للديمقراطية، ولا يصلح للمعارضة كذلك. ثم خلط خلطا عبقريا بين معارضتنا الحريرية الناعمة، وبين معارضة الجيوش الإسلامية المسلحة بالغاز السام وبالمفخخات والصواريخ والأحزمة الناسفة، وساوى بيننا وبين إرهابيين جهلة لا يفقهون سوى في التكفير والترشيد والإمامة والخلافة، وأغلبه وافدون من وراء الحدود. أما نحن فقاسينا كثيرا لنقنع السييد الوزير بأن ذلك إجرام، وهذه معارضة، وأن الإرهاب عدو للجميع، لا يستهدف الحكومة وحدها، بل يقتل معارضيها أيضا، إذا كانوا لا يستظلون بإمام الجماعة، وبفكره الظلامي الضار.
ضحك السيد الوزير وقال ساخرا، quot;نحن لا نحتاج إلى معارضة، فنحن بدونها نعرف السراط المستقيمquot;. ثم استدرك قائلا quot;ومهما كبرت المعارضة واشتد عودها فلن تحقق شيئا ذا قيمة. وأمامكم صدام حسين. ماذا فعلت معارضتنا كلها بنظامه طيلة خمس وثلاثين سنة؟ لا شيء. ولولا بوش وصواريخه لعاش أحفادنا تحت سلطة أحد أحفاد السيدة حلى أو أخيها قصيquot;.
واضاف quot;من الحقائق التي لا مجال الى إنكارها أن معارضتنا كانت عاجزة عن إلحاق أي ضرر حقيقي بجسد النظام. نعم، كنا نزعجه ونزعج سفراءه. ولكنه لم يكن يعبأ بكل ما كنا نفعله، لأننا معارضون من الخارج. وفي الداخل كان يعلم أن مخابراته وأجهزة أمنه المتعددة لم تبق معارضة تستحق أن يدخلها في الحسبان. وحتى حين كانت فصائل صغيرة من أتباعنا تخترق أمن النظام، وتقوم ببعض التفجيرات هنا أو هناك، ليس في بغداد بل في المدن البعيدة الأخرى، لم تكن كافية لتجعل النظام يخفف قليلا من حرارة غروره وعنجهيته وظلمه، ويفكر، مجرد تفكير، في الاستماع إلى آرائنا وأفكارنا. بل كان يفعل العكس. كان يحول تلك التفجيرات إلى سلاح بيده ضدنا، وليس بأيدينا ضده. وبسبب تفجيراتنا وما توقعه من أضرار بأرواح مواطنين أبرياء أو بمنازلهم أو أرزاقهم كان يجعلنا نبدو في أعين أهلنا خارجين على القانون ومخربين وإرهابيين ننفذ أجندات غير عراقية. إضافة إلى شيء مهم آخر. كنا جميعا في الخارج إما ضيوفا على دول بعيدة جدا عن الوطن، أو على دول مجاورة لم تكن تسمح بالقيام بأي نشاط سياسي أو عسكري ضد صدام، إلا بالقدر الذي تحتاجه مصالحها وحساباتهاquot;.
وquot;من يستطيع أن ينكر أنه تمكن من رشوة دول ومؤسسات وشخصيات عربية وعالمية مهمة، الأمر الذي جعل تحرير الشعب العراقي من كابوسه ضربا من الخيال. حتى أن دولا كبرى مثل روسيا وفرنسا والمانيا وغيرها كانت تفعل الأعاجيب للدفاع عن ظلمه، وتبذل كل ما تستطيع لإنقاذ رقبته من القصاص. حتى الحصار الاقتصادي الذي جوع شعبنا وأذله سنين طويلة كان يستغل آثاره الكارثية بذكاء وبإجراءات وسياسات بالغة التعقيد لتقاسم منافعه مع دول وأحزاب وشخصيات عراقية وعربية وعالمية مؤثرة، ناهيك عن استخدام أضراره المؤذية لإغراق المواطن في هموم لقمة العيشquot;.
ومضى السيد الوزير في تثقيفنا، بجدية بالغة، كاشفا لنا عن ثقافته ولطفه وذوقه العالي فألقى في وجوه الجالسين عبارة كأنها بصقة كبيرة، ولم ينتبه ولم يستدرك أو يعتذر، قال quot;منذ بدء الخليقة كانت الحكومات تسير والمعارضون ينبحون. والناس على دين ملوكها. مع القوي الذي يملك السلطة والمالquot;.
في ختام ذلك الجدل العقيم قلت للسيد الوزير، quot;وحكومة رفاقنا المعارضين السابقين تفعل اليوم تماما ما كان يفعله جلادهم وجلادنا. فهي تشتري الأحزاب والعشائر والحكومات الشقيقة والصديقة بالعطايا والهبات والعقود والصفقات، دون اعتبار إلا لمصالح أحزابها. قال، quot;هذا تحامل وعداء لا نسمح بهquot;. قلت، وما هو المسموح به أيها الصديق العزيز؟ لم يرد، ونهض مسرعا، وأنتهى الحوار.
حزنت كثيرا، حزنت بشدة، لأن وجوه علي حسن المجيد وحسين كامل وعبد الغني عبد الغفور ومحمد سعيد الصحاف كانت تتراقص في مخيلتي، وأنا أستمع بخشوع لمواعض السيد الوزير.
إبراهيم الزبيدي
التعليقات