لم يكن ما يسمى بالنظام القضائي العربي، في يوم من الأيام على ما يرام، كما لا يمكن التعويل عليه بأية حال. فقد كان على الدوام رهناً لمعايير مغلوطة ومبهمة ومقلوبة، وبدا متحالفاً مع المؤسسة السلطوية المعروفة على الدوام بشراستها وابتعادها عن أية موازين عدلية إنسانية وأخلاقية. ومن هنا، لا يمكن في هذا السياق، الركون والاستناد على بعض quot;الشذراتquot;، وquot;الخوارقquot; القضائية، والحوادث الاستثنائية التي جرت فيما يسمى بالتاريخ العربي والإسلامي من مثل إطلاق قول خليفة المسلمين عمر بن الخطاب، وبشكل نمطي وانعكاسي فوري، للتدليل على ترسخ العدالة في هذا الفضاء اليعربي الظالم، المظلم: quot;متى استعبدتم الناس وقد وبدتهم أمهاتهم أحراراًquot;، بالإشارة إلى القصة التي حدثت بين أحد الأعاريب، الأشاوس، ورجل آخر غير مسلم، في سباق أو ما شابه ذلك، وبالتعويل المشكوك فيه هنا، على ما تستجمع ذاكرتي. فكما يقول المثل الإنكليزي، إنّ وجودَ سنونوة واحدة لا يصنع الربيع، كما أن سقوط ورقة من شجرة لا تنبئ بقدوم الخريف. فأيضاً، وعلى نفس نمط، ومضمار الاستدلال المنطقي يمكن القول، إن هذه الحادثة الفريدة، وquot;الفاقعةquot;، أو الغريبة، في تاريخ عروبي طويل من العسف والقمع والتنكيل لا يمكن أن تشكل نسقاً قضائياً ولا منظومة عدلية راسخة تجدد تقاليدها في كل مرة مع كل حادثة قضائية جدية. ولا تعني، بالتالي، وجود نظام قضائي وعدلي متأصل في ما يسمى بالتاريخ العربي. وإذا كانت هذه الحادثة موجودة في التاريخ، وهي موجودة، فعلاً، فهناك مئات الآلاف من الحوادث، والحكايا، والأعاجيب، وquot;النهفاتquot;، والقضايا اللا عدلية والقمعية والتعسفية الظالمة والتنكيل الذي يندى له الجبين مقابل هذه الحادثة الوحيدة والاستثنائية التي بزغت في التاريخ، وربما بمحض صدفة، مع أحد خلفاء المسلمين. فإذا لم تكن العدالة مـُمأسسة Institutionalized، وتنطلق، وتدعمها منظومة معرفية وسلوكية وثقافة عدلية مجتمعية سائدة، فلا تعني شيئاً على الإطلاق. وإلى اليوم، مثلاً، فالتمييز قائم، ومقونن في دساتير الأعاريب، والعبودية شرعية فيها، وتمارس بتنويعات وسلوكيات مختلفة.

ولقد عكس، مثلاً، الإفراج عن الضباط الأربعة، بعد قرابة السنوات الأربع من الاعتقال التعسفي القائم على ظنية واعتبارات سياسية وكيدية ولا أرضية لها، نقول عكس تلك النظرة السوداء عن القضاء في هذه المنظومة الاستبدادية المحكوم بعوامل النفوذ والسلطة والمال والكيدية والثأر والانتقام، ولا يمكن الوثوق به على الإطلاق، أو التعويل عليه في أية قضية عدلية، وانهارت كثير من الآمال التي انعقدت حول عدالة، بات في حكم المؤكد، أن لا وجود لها.

وحين كان يصفق الأعاريب ومؤسساتهم الرسمية وجامعتهم العربية وكتبتهم البواسل للقائد الملهم الضرورة، كانت الدماء ما تزال على يديه من ضحاياه الكثر في غير مكان، ولم تتحرك أية جهة رسمية أو شعبية لمساءلته. لقد كان هذا الأمر ينبئ عن، بقدر ما يكرس، أمراً واحداً، ألا وهو لا أخلاقية المعايير والمواقف والسلوكيات، وبطلان همروجة عدالتهم التاريخية، ومن ورائها النظام القضائي، من بابه لمحرابه، الذي كان يقف، على الدوام، موقف المتفرج فيما الجرائم ترتكب على قدم وساق.

وقد بيـّن، أيضاً، اعتقال أفراد تابعين لما اصطلح عليه، بخلية حزب الله، خضوع النظام القضائي هنا، لسلطة أهل السياسة، والتحاقه بهم كلياً، والتزامه بكل ما يصدر عنهم، إذ لا يمكن ومن وجوه عدة، عدلية وأخلاقية، النظر إلى خلية حزب الله من زاوية جرمية وجنائية بحتة، ومع الاعتراف الدائم بسيادة مصر وحقها في هذا المجال، غير أن الظاهر بفجاجة هنا، هو الخلط التام والواضح بين السياسي والقضائي وعدم قدرة القضائي على الإفلات والهروب من قبضة السياسي، بكل ما في ذلك من إدانة، ومهانة له.

وفي دارفور مثلاً، فإنه يمكن القول، ومن دون إلقاء للتهم على عواهنها، فالأمر لا يكاد يخلو، أحياناً، من تهويل وتضخيم إعلامي، ويتطلب إجراءات تحقق طويلة، كما لا يمكن الجزم بحدوث أية جرائم إبادة جماعية على نطاق واسع، لكن يمكن المجازفة بالقول بأن تجاوزات معينة ما، قد تكون قد جرت بشكل أو بآخر، وتطلبت في حينه تحقيقاً عدلياً عربياً لم يحصل، ويبدو أنه لن يحصل أبداً، غير أن المتهم الوحيد هنا، يبقى هو النظام القضائي والعدلي وما يسمى بالجامعة العربية لوقوفها موقف اللا مبالي والمتفرج في نطاق تابع لعملها، وتقاعسها وعجزها، عن تقديم أي نوع من المساعدة، وبدت في حال من اللامبالاة، وهي في انتظار مذكرة مدعي عام المحكمة الجنايات الدولية أوكامبو حتى تتحرك النخوة، وتدب دماء العادلة quot;المفقودةquot; في شرايينها، وأوصالها الناشفة، هذه العدالة التي لم تعن أي شيء لها في أي يوم من الأيام.

وبنفس القدر، والسياق، لا يمكن نسيان الجراحات والألم العميق الذي أحدثه الغزو البربري القومجي العروبي لدولة الكويت، وسط صمت كامل لمجمل آليات وأدوات ما يسمى بالمنظومة القضائية والعدلية العربية التي انتظرت عدالة دبابات الجنرال شوارزكوف لترفع الضيم والحيف ويد الجاني القومي الآثمة عن جسد quot;الشقيقquot; (ورجاء لا تضحكوا)، العروبي الصغير.

إن ما جرى، ويجرى من تهريج قضائي وعدلي، دائم، في عموم هذه المنظومة الاستبدادية الشرق أوسطية، وخرق يومي، متأصل وأصيل، ممأسس وممنهج، وعلى نطاقات واسعة تشمل كافة الميادين، للقوانين يعني في المحصلة شيئاً واحداً ووحيداً، ألا وهو الانهيار الكلي والتام، النظام القضائي العربي، هذا إن كان موجوداً بالأصل، أو انعدامه إن صح التعبير.

وخلاصة القول، ووصية بالمجان، ولوجه الله، فحين تعتريكم أية مشكلة قانونية، أو يكون لديكم أية دعوى قضائية، أو كنتم في صدد البحث عن أية quot;حقيقةquot; أو quot;حئيئةquot;، ولا فرق، فلا يجب اللجوء إلى النظام القضائي العربي، بأية حال، فهو غير مؤهل لإحقاق أي حق، وغير جدير بأية ثقة على الإطلاق. ولا تطرقوا، بنفس الوقت، باب أي قاض تجري دماء العروبة في عروقه. فتاريخ العدالة العربية، التي يحتفلون بثقافتها كل عام، والشكوى لله وحده، لا يشرّف كثيراً، وملوث بآفات الطائفية، وبنزعات الفردية والتسلطية الدكتاتورية، وموبوء بجراثيم العائلية، ومصاب بفيروسات سياسية، وخاضع للإغراءات المالية، ومستسلم لنجوم وابتزازات مافياوية، ومشلول بالاعتبارات القبلية، الما قبل حضارية، أو حقوقية إنسانية باتت هذه الأخيرة حقائق ملموسة على الأرض، يمارسها، ويرفل بنـِعـَمـِها الجمـّة العالم الحديث، فيما نحن واقفون، كالعادة، مشدوهون كـquot;بدوي في باريسquot;، نتمعن بإنجازات الحضارة التي تتم أمامنا، بحسرة شديدة، وحزن شديد، وقلب بائس كسير.

نضال نعيسة

[email protected]