من المشتركات الأدبية التي تحافظ عليها الشعوب بمختلف لغاتها، تلك التي يطلق عليها الأدب الأسطوري والذي يسميه البعض الذي لايحسن فن اللغة بالأدب الخرافي، وهذه الآداب الأسطورية ربما تكون هي الرافد الذي يوصل الحكمة إلى آذان وقلوب أناس كثر ليس لديهم القدرة على إستيعاب الحِكم أو أخذها من منابعها الأساسية، لذلك عمد الأدباء بقصد أو بغير قصد إلى إنتاج هذا اللون من الآداب الذي وصل لنا عبر مؤلفات مختلفة، كما في ألف ليلة وليلة الذي يعد من أهم كتب التراث العربي، وقيل إنه مترجم من الفارسية وهذا غير سديد.
وكذلك من الكتب التي عنيت بهذا الشأن كتاب كليلة ودمنة للفيلسوف الهندي بيديا، والذي ترجمه للعربية الأديب عبدالله بن المقفع وهو أديب مخضرم عاش في نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي. وامتد هذا الأدب ليشمل العلوم الدينية ويتوغل فيها بأوسط الطرق بعد أن وجد الأجواء المناسبة لإستقطابه والتي فاقت الموروث الأدبي، بسبب أن الحديث في أمور الدين يجد إنتشاراً واسعاً لدى كثير من الناس، إضافة إلى ترويجه من قبل رجال الدين الذين لايستطيعون مجاراة العلوم الحقيقية، وهذا الصنف من رجال الدين قد وجدوا ضالتهم في هذا الإرث الذي يعتبر بالنسبة لهم كالمعين الذي لا ينضب، لسهولة فهمه وتواجده.
من هنا نستخلص أن هذا التراث قد ساعد على فهم بعض الحقائق التي تكون غامضة نوعاً ما على العامة من الناس لاسيما أولئك الذين لايستطيعون التعمق في علوم الدين أو المباحث الفلسفية التي تعنى بهذا الشأن، ومثالاً على ذلك فإن الأسطورة التي تبين سيادة الإنسان على الأرض نجدها ترسم لنا هذا الواقع بألطف خيال ممكن أن يصل إلى أقل الناس علماً، حيث عبر فيها مؤلفها عن المراحل الأولى لخلق آدم، وكيف أن الحية ذهبت إلى الحوت لتخبره أن الله تعالى قد خلق خلقاً يستطيع إخراجها من الجحر الذي تعيش فيه، وبنفس الوقت لديه القدرة على إخراج الحوت من البحر.
وهكذا تستمر هذه الأسطورة لتبين سيادة الإنسان على البر والبحر، وكذلك تظهر الريادة العامة التي جعلته في مقدمة الخلق، ولو قارنا ما في تلك الأسطورة مع فلسفة خلق الإنسان لوجدنا الأمر بينهما يشير إلى نتيجة واحدة وإن كان هناك إختلافاً للمفهوم العام في بعض مصاديقه.
لذلك نجد أن القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة بمفهومها العام الذي تظهر فيه سيادة الإنسان وتكريمه وتفضيله على كثير من الخلق، كما في قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) الإسراء 70. وكذلك في قوله خطاباً للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة......الآية) البقرة 30. ولو جمعنا التكريم الذي أشارت له آية الإسراء مع الخلافة التي ذكرت في آية البقرة، نحصل على أهم الأسباب التي تقودنا إلى معرفة الأمانة التي عرضها الله تعالى على بعض مخلوقاته وأبت أن تحملها، والتي أشار لها جل شأنه بقوله: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) الأحزاب 72.
وهذه الآية الكريمة تبين لنا سيادة الإنسان على باقي المخلوقات أو خلافته في الأرض، لأن معنى الأمانة لغةً: هي الشيء الذي يودع لدى من يؤتمن عليها ثم ترد إلى صاحبها، وفي هذه الحالة لابد من الإطمئنان إلى تفسيرها بالخلافة العامة في الأرض والتي ترد إلى الله تعالى بعد أن يقضى الأمر كما في قوله: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) غافر 16.
ولا يمكن الإطمئنان إلى رأي من ذهب على أنها التكليف أو الإختيار ولا حتى كلمة التوحيد، بسبب أن السموات والأرض والجبال تحمل تلك النسب في طبيعة خلقها مما يدفع الآراء التي عرضناها كما يشير إلى ذلك تعالى بقوله: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) الإسراء 44. وكذلك قوله: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض......الآية) الجمعة 1.
ومن المفسرين من ذهب إلى أنها الخلافة إلا أنه اختصرها على الخلافة الشرعية التي أذن الله بها كخلافة الأنبياء التي أشار لها بقوله: (ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض) ص 26. وكذلك قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) القصص 5. إضافة إلى خلافة الأئمة المشار إليها بقوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض......الآية) النور 55. وغيرها من الآيات التي تشير إلى هذا المعنى.
إلا أن الحقيقة تظهر جلية في سياق آية البحث، حيث أن السيادة أو الخلافة التي حملها الإنسان لا يراد منها الخلافة الشرعية إلا بإستثناء منقطع، وذلك لأن الظلم والجهل الذي نسب إلى الإنسان في الآية الكريمة لا ينطبق على خلافة الأنبياء أو الأئمة أو غيرهم من الصالحين، وإنما ينطبق على السيادة التي قبلها الإنسان وجعلها خاضعة لظلمه وبطشه وتجبره وهذه هي طبيعة الإنسان المجرد عن التشريع.
فإن قيل: ماهي الفائدة التي تعود على المؤمنين من هذا النهج؟ أقول: هذا هو الأصل الذي اختاره الإنسان فإن أحسنه يخرج من الكليات العامة التي أشارت لها الآية، وإن لم يحسنه يدخل في من وقع عليهم القول والذين أشار لهم تعالى بقوله: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) الأنعام 149. هذا وللمفسرين في معنى الأمانة التي حملها الإنسان اختلافات شتى نورد بعضها على سبيل الإيجاز.
قال أبو حيان في البحر المحيط: (إنا عرضنا الأمانة).. لما أرشد المؤمنين إلى ما أرشد من ترك الأذى واتقاء الله وسداد القول، ورتب على الطاعة ما رتب، بين أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم، فقال: (إنا عرضنا الأمانة).. تعظيماً لأمر التكليف، والأمانة: الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، والشرع كله أمانة، وهذا قول الجمهور، ولذلك قال: أبي بن كعب: من الأمانة أن أؤتمنت المرأة على فرجها، وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، والظاهر عرض الأمانة على هذه المخلوقات العظام وهي الأوامر والنواهي، فتثاب إن أحسنت، وتعاقب إن أساءت، فأبت وأشفقت، ويكون ذلك بإدراك خلقه الله فيها، وهذا غير مستحيل، إذ قد سبح الحصى في كفه (عليه الصلاة والسلام) وحن الجذع إليه، وكلمه الذراع، فيكون هذا العرض والإباء حقيقة. إنتهى. أقول: العرض والإباء ليس على حقيقته، وإنما بني على التمثيل كما في قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) فصلت 11.
أما الإمام الطبراني فيقول في تفسيره الكبير: قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال) معناه: إنا عرضنا الأمانة التي هي الشرائع التي يتعلق بأدائها الثواب وبتركها العقاب، قال ابن عباس: عرضت الأمانة على السموات السبع التي زينت بالنجوم وحملت العرش العظيم، فقيل لهن يأخذن الأمانة بما فيها، قلن وما فيها، قيل: إن أحسنتن جزيتن وإن أسأتن عوقبتن، قلن لا ثم عرضت الأمانة على الجبال الصم الشوامخ الصلاب البواذخ [فأبين أن يحملنها وأشفقن منها] قال ابن جريج: قالت السماء يا رب خلقتني وجعلتني سقفاً محفوظاً، وأجريت فيَ الشمس والقمر والنجوم، لا أعمل فريضة ولا أبتغي ثواباً، وقالت الأرض يارب جعلتني بساطاً ومهاداً وشققت فيَ الأنهار وأنبت فيَ الأشجار، لا أتحمل فريضة ولا أبتغي ثواباً ولا عقاباً. ومعنى قوله: (فأبين أن يحملنها) أي مخافة وخشية لا معصية ولا مخالفة، والعرض كان تخييراً لا إلزاماً، وقوله: (وأشفقن منها) أي خفن من الأمانة أن لا توفيها فيلحقهن العقاب، فأبوا ذلك تعظيماً لدين الله وخوفاً أن لا يقوموا به وقالوا نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً. وقوله تعالى: (وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) يعني وحملها آدم (عليه السلام) قال الله: يا آدم إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ولم يطقنها، فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال يارب وما فيها قال إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فتحملها آدم، وقال: حملتها بين أذني وعاتقي. إنتهى. أقول: آدم (عليه السلام) أكرم من أن ينسب له الظلم والجهل، اللهم إلا إذا كان يريد ذريته متمثلة فيه لكنه لم يشر إلى ذلك.
وقال الزمخشري في الكشاف: إن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به، فأبى محمله والإستقلال به، وحملها الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته.. [إنه كان ظلوماً جهولاً) حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء به القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم، من ذلك قول العرب.. لو قيل للشحم أين تذهب لقال أسوي العوج، وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات وتصور مقالة الشحم محال، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه، تصور أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. إنتهى. أقول: ينطبق عليه ما على أبي حيان والطبراني، إلا أنه أحسن التمثيل ولم يحمل الكلام على حقيقته.
عبدالله بدر إسكندر المالكي
التعليقات