بعيداً عن التجاذبات السياسية والمزايدات الإعلامية بخصوص الموقف من الاحتلال والعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لا بد من التركيز على رصد الواقع الميداني ودراسة أحوال الشعب العراقي واستطلاع آراء الشارع العراقي وموقف الرأي العام العراقي من حكومته وسياستها الداخلية والخارجية، وما قدمته وستقدمه من خدمات ورعاية اجتماعية وصحية وتربوية وتعليمية وإصلاحات اقتصادية. يخوض العراق اليوم أكبر معركة مصيرية، ويواجه أكبر التحديات لإثبات وجوده واستمراره وتخطيه للعقبات والمحن من أجل أن يتبوأ من جديد مكانته الدولية التي تليق به وبتاريخه العريق بعد الانعطافة التاريخية التي تمثلت بتغيير النظام الذي كان سائداً بقوة الحديد والنار ومحتكراً لمقدرات البلد ومصيره. وأياً كانت سبل وآليات ومسببات التغيير التي توجه إليها المئات من علامات الاستفهام. فإن السبيل الوحيد لخروج العراق من دوامة العنف والتخلص من مأزق التخلف وتردي البنى التحتية وانعدام الخدمات وتفشي البطالة وانتشار الفقر، ـ حتى قبل عنه quot; يعيش في العراق أفقر شعب في أغنى بلد في العالمquot;، ـ هو الالتفات بجدية إلى الصناعة النفطية وزيادة القدرة الإنتاجية للبلد لتصل إلى ثلاثة أضعاف ما هي عليه الآن كي يوفر المقدمات اللازمة لإنعاش اقتصاده وتحريك عجلته الإنتاجية وتفعيل دورته الاقتصادية السليمة والسوية. والحال أنه لا يمكن للعراق تجاوز سقفه الإنتاجي من النفط بدون مساعدة الشركات النفطية العالمية العملاقة والمتخصصة. وهذه الأخيرة راغبة ومستعدة للعمل والاستثمار في العراق لكنها تحتاج إلى ضمانات وقوانين مرنة للاستثمار وخدمات تتمثل بتوفير الأراضي والسكن والنقل والحماية والأمن والأيدي العاملة المحلية وغيرها من المستلزمات التي يجب أن تتوفر وبأسرع وقت ممكن.
سيكون العراق بلا شك أحد أهم وأكبر الملفات لهذا العام والعام الذي يليه بالنسبة للشركات النفطية العملاقة لأنه البلد الذي يمتلك ثاني أو ثالث أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم. قدم العراق سنة 2008 عروضاً لاستغلال ثمانية حقول، وأحد عشر حقلاً للنفط والغاز، والغاية من تلك العروض هي إيجاد المستثمرين الدوليين لرفع الطاقة الإنتاجية للعراق من 5،2 مليون برميل في اليوم، وهي أقصى ما وصل إليه معدل الإنتاج العراقي منذ سنوات طويلة، بعد سنوات الحصار والمقاطعة والعقوبات والحظر الدولي، نتيجة حروب النظام السابق العبثية المدمرة، لتصل الطاقة الإنتاجية إلى 6 مليون برميل في اليوم وذلك في غضون 5 إلى 7 سنوات، أي من الآن وحتى عام 2015.
تزاحمت الشركات النفطية العالمية على العراق استجابة للعرض العراقي الأول للتنافس وخوض المزاد الذي أثار اهتمام حوالي ثلاثين شركة من بينها توتال الفرنسيةTotal، وشيل الهولندية Shell، والبي ب برتيش بيتروليوم البريطانية Bp، وإكسيون موبايل الأمريكيةExxon Mobil، وقامت تلك الشركات بتقديم تعليقاتها ومقترحاتها والتعديلات التي ترتأيها على محتويات العرض العراقي، خاصة فيما يتعلق بنوع العقود المطلوبة التي يقترحها العراق، والجدير بالذكر أن شركة توتال الفرنسية قد تحالفت مع شركة شفرون الأمريكية لاستغلال وتطوير الحقول النفطية العراقية منذ سنة 2007. وقد أرسل العراق في منتصف شهر نيسان 2009 لجميع الشركات الصيغة النهائية لعروضه للتنافس كي يتلقى الردود المرجوة من الآن ولغاية نهاية شهر حزيران 2009. وينتظر توقيع العقود التي سيرسو عليها الاختيار في الفصل الثالث من هذا العام. كما تم اختيار أولي لأربعين شركة لتتنافس على العرض الحكومي العراقي الثاني كما صرح وزير النفط العراقي حسين الشهرستاني مؤخراً.
لماذا كل هذا الاهتمام الدولي بالعراق اليوم؟ لأن العراق هو البلد الأرخص في العالم في مجال تكلفة استخراج النفط من أعماقه والأفضل بنوعيته خاصة وأن أسعار النفط تتراوح اليوم الـ 40 و الـ 50 دولار للبرميل. النقطة الثانية التي تجذب الشركات الدولية في هذا المجال هو عدم وجود شركة نفطية محلية عملاقة يمكن مقارنتها بشركة آرامكو السعودية على سبيل المثال قادر لوحدها وبدون استثمار دولي أن تطلق عملية الإنتاج وترفعها أكثر من ثلاثة أضعاف في غضون أشهر قليلة، وبالتالي فإنه لابد للعراق من اللجوء إلى الشركات العالمية الخبيرة لتحقيق هذا الهدف فهي الوحيدة القادرة على ضخ رؤوس أموال ضخمة وتوفير الإستثمارات الضرورية لتنفيذ الأهداف الحكومية. فاستغلال حقول النفط الموجودة حالياً وتطويرها يحتاج إلى ما لا يقل عن 35 مليار دولار بغية رفع سقف الإنتاج في العراق إلى 5،3 مليون برميل في اليوم فوراً، حسب تقديرات وزارة النفط وهو أمر عاجل وحاسم بالنسبة للحكومة العراقية إذ أن عائدات النفط توفر 95% من ميزانية الدولة الفيدرالية، حتى تتمكن الحكومة الاتحادية من مواجهة الأعباء الاقتصادية التي تقع على عاتقها، ناهيك عن ما لا يقل عن 50 مليار دولار لاستغلال حقول النفط الجديدة المكتشفة أصلاً، وأموال أخرى هائلة للتنقيب عن حقول أخرى. بالمقابل هناك مخاوف ومعوقات تتعلق بحجم المخاطر، لاسيما الأمنية منها، الموجود على الأرض. فالمناخ السياسي غير مستقر تماماً، وهناك تفاقم في الشعور القومي لدى بعض مكونات الشعب العراقي ففيما يتعلق بملكية وأحقية استغلال الثروة النفطية والحال أن النفط ملك الشعب العراقي كله ولن يكون من السهل تقديم تنازلات لشركات أجنبية تمس بهذا الحق المقدس في نظر الشعب. فمشروع قانون استغلال النفط والغاز كان قد قدم في شباط 2007 ولم يتم التصويت عليه وإقراره لحد الآن من قبل البرلمان العراقي. :quot; فنص القانون يلاقي معارضة شديدة من قبل العديد من المجموعات والكتل والقوى السياسية العراقية. وفي مثل هذه الظروف كانت المفاوضات عسيرة بين الحكومة العراقية وشركات النفط. وقد أفضت المناقشات إلى إمكانية منح نسبة 75% من أسهم الشركات المشتركة المزمع تشكيلها بين الحكومة العراقية والشركات العالمية مقابل نسبة 49% سابقاً. وستمتلك شركة عراقية الأصول العامة ورأس المال.
ونصت العقود المقترحة على تقديم تعويضات إضافية عندما ينتقل مستوى الإنتاج إلى مرحلة تسمى بـ quot; المستوى الأساسي Niveau de Basequot; المستقرة والثابتة بالأصل وتضم بما بات يعرف بـ معدل الانحدارtaux de deacute;clin للآبار وقيمته 9،1 % مما سيتيح على مر السنين بلوغ عتبة المستوى الأساس المشار إليه قبل قليل. ولم يستبعد وزير النفط العمل لاحقاً بما عرف بصيغة عقود الشراكة وتقاسم الإنتاج بالنسبة للـ 65 حقلاً نفطياً جديداً التي ينتظر التنقيب عنها واكتشافها واستغلالها كلياً من قبل الشركات العالمية في المستقبل. ولاننسى أن البلد شبه مخنوق اليوم لانعدام الطاقة الكهربائية الكافية لاحتياجاته وللماء الصالح للشرب ولشبكات تصريف المياه وبالتالي فهو يفتقد القدرة للمناورة من موقع القوة. فبسبب انخفاض أسعار النفط في السوق العالمية من 100 إلى أقل من 50 دولار سنة 2009، فإن ميزانية العراق انخفضت من 80 مليار متوقعة إلى 2،58 مليار دولار مما خلق الكثير من الصعوبات أمام الحكومة العراقية في تنفيذ المشاريع الاقتصادية والتنموية التي تعهدت بها وتأمين الضروريات اللازمة للحياة ودفع رواتب الموظفين وقوات الأمن والجيش والشرطة مما يستهلك أكثر من ثلثي ميزانية الدولة. وكان وزير النفط العراقي قد دعا شركتي توتال وشيفرونCHEVRON المتحالفتين لتقديم عروضهما لاستغلال حقل نهر بن عمر العملاق الواقع في جنوب البلاد والذي يحتوي على 5،6 مليار برميل ولا يدخل في عروض المزاد الأول والثاني المذكورين أعلاه. كما دعا العراق شركات النفط النرويجية ستات أويل هيدرو statoilHydro، والبرازيلية بيتروبرا petrobras للدخول في المنافسات وتقديم عروضهما أيضاً ويشكلان تحالفاً قوياً بينهما يمكنه من منافسة العمالقة الآخرين، فهل سينجح العراق في هذا الامتحان؟
د. جواد بشارة
[email protected]
التعليقات