لقد اتضحت المعادلات الإستراتيجية الحاكمة والفاعلة في منطقة الشرق الأوسط وبدأت معالمها تنجلي لكثير من الكتاب والمثقفين، إذ بعد أن أستنطقت معالمها النزعو ndash; أستبطانية ككاشف كيميائي إحيائي وكموروث جيني أضطراري، نحت نحواً لن يقبل المفهوم الرجعي إلى ما قبل هده المرحلة. بعض هذه الإستراتيجيات يؤوب إلى التطور الطبيعي للمراحل الأساسية في التشكيل التاريخي بل كجزء من آلية وميكانيزم الأقتصادي وكتعبير عن سيطرة الأقتصاد المالي بالضرورة على حيثيات الأمر الواقع. وبعض هذه الأستراتيجيات تقمص طابع التاريخانية المؤدلجة والعقائدية اللاهوتية ليطعن في كرامة الموروث الثقافي العام ويستبيح حرمة تجلياته لمشروعه الخاص. لذا أعتقد إن الشرق الأوسط قد أنتهى بمدلوله القديم البسيط ضمن دالة العلاقة مابين الرعوي الإقطاعي الكهنوتي والرأسمالي غير الناضج ليبرز بملامح جديدة خاضعة لحجم التجاذبات المتناقضة التي هي تتمايز في الأساس عن التناقضات الموضوعية أو بتعبير أصدق عن التجاذبات في التناقض. وإذا تصور البعض إن الأمور الدقيقة تسير نحو زوايا إيجابية تفاؤلية فأعتقد إنهم في سبات عميق لن يفيقوا قط من هول الفاجعة التي تفترس المنطقة.

فالتوازنات الحسابية التي بدت لهم وكأنها تحمي وتحافظ على سيرورة وصيرورة الشرق الأوسط ليست في النهاية إلا وهماً وسراباً نوهنا إليها في أكثر من مطرح ومناسبة. ودليلنا الأنطولوجي الصارخ على ذلك هو مجرد الحديث عن خلاف ونزاع ما بين حزب الله ودولة عريقة تاريخية مركزية كمصر، أو المطالبة بإقامة حوار ما بين حركة حماس والدول الأوربية. هذا السريان أو الجريان التاريخي الجديد القادم إلينا من غياهب نسق المقصود والمتعمد لايخفي ما بين يديه ولامابين جنباته إلا صورته ونسخته الأصلية في الظهور والتعبير. هذا السيلان البيوفيزيائي ليس مرضاً أو عارضاً أو أرتجالية إنما ولج بدراية ودراسة وبحث إلى مستوى ماتحت الشعور الفرويدي وإلى مستوى الشعور الجمعي الآدلري. وأخد يستحوذ على منطوقين في الشرق الأوسط، القوة المعنوية الإجتماعية، والقوة المعنوية السياسية، وعلى بعد إرضائي دولي، القوة المعنوية لسلطة الأمر الواقع، لذا بلا ريب أمسى في قوة مستوى الظاهرة الهسرلية. وهذا هو مكمن الذعر والقلق الدي يسبق الإنقلاب التاريخي.

إلى هذا، ولكي نعي بدقة ما القصد من هذا الكلام لامندوحة من تحليل الشرق الأوسط من زوايا متباينة إلى عوامله الأولية والأساسية لإدراك مصدر الإشكالية المعاصرة في الشرق الأوسط وبالتالي تجسيد معالم المخلب الفارسي والمخلب الرأسمالي. أولاً: غياب ومراهقية التيارين اليساري والليبرالي اللذان مابرحا إطلاقاً المواقع الأولية والبدائية لتصورهما، وتناسيا أو بالأحرى لم يدركا إن وظيفتهما الجوهرية هي في تفعيل عملية تخمير مكونات ( بونياد ) المجتمع كمعطى تاريخي ومدلول فيزيائي قانوني، وليست على الإطلاق هي في الولوج التخارجي في عالم السياسة ومواقعها المتضاربة التي بدت لهم كهندي يتحدث التركية. فالسياسة بالنسبة للتيارين اليساري والليبرالي إنبغت أن تكون نتيجة ومحصلة لاحقتين للخميرة الإجتماعية الفكرية والممارساتية، وليست هدفاً أولياً مسبقاً. والأنكى والأمر من كل ذلك إن التيارين لازالا بعدين عن الطرح التاريخي لمفهوم اليسار والليبرالية ويشكوان من فجوة قاتلة ما بين التنظير والممارسة اللصيقة به. وحتى التنظير لايستقطب إلا الآراء الفردية، وكأن المسألة إرادوية فوضوية لاتجسد سوى هزالة البنيان الفوقي وهشاشة البنى التحتية، فالتياران لايفقهان حتى هده اللحظة تمام الفقه طبيعة المواقع أو الميكانيزم الخاص المولد فعلياً للصيرورة التاريخية لذلك ألتغى دورهما التاريخي، المفترض المنقذ المخلص، لمصلحة المكونات الإجتماعية البديلة. ثانياً : المجال العائم : لإن مجتمعاتنا لم تلج مخاض المرحلة الرأسمالية، ولاتدرك دالة مقولاتها ولامصوغات أسبابها، ثم عايشت نتائجها، فإنها تشكو من منطقة ضبابية عائمة حيث يمكن أن تكون كل شيء أو ألا تكون أي شيء. وكأنها غير خاضعة للقوى المحركة للتاريخ، حيث إنعدام قوانين الفيزياء والرياضيات ونفي التاريخ لمنطقه وهتك الأحداث للقوانين الموضوعية.

هذا المجال العائم يفسر عدم إمكانية ضبط حركة المجتمعات ويدفعنا نحو مفهوم جديد أسميه الإختلاف في التناقض الذي قد يبين على الأقل إنتهازية المثقف، سلوكية السياسي، الأبعاد الوهمية للتنظير، عدم مصداقية الإنتماء، هيولية التبرير، ثالوثية المواقف، عدم إمكانية ضبط الخطاب العام ولامفرداته، حيث تنمحى وتغيب الحدود ما بين المبادىء، لتغدو الممارسة نوعاً من الأخلاقيات وليس تابعاً رياضياً للقوانين الموضوعية التي تتحكم في منطق علم تطور المجتمعات. ثالثاً : المشاريع القومية : من المؤكد إن المشاريع القومية قد أفلست بعد أن أثخنت المنطقة ولازالت بالجراح والمآسي، ونحن لاندلل على دائرة مهجورة غائبة إنما نؤكد إن مفهوم الدولة والتاريخ الحديث قد تجاوز منطوق المشاريع القومية التي أضحت عاجزة على مجابهة تحديات العصر وأستدراك محتوى العيش المشترك، ناهيك إن دائرة وعي الضرورة قد فرضت على الإنسان مفهوماً جديداً أسميه الأنتقال من الجغرافية القومية بمحتواها الحدي الساذج إلى قانونية الإنسان القومي بمحتواها الديناميكي الحيثي ( العدالة، المساواة، الحرية، تكافؤ الفرص، حرية المقاضاة، الخ ) مع مبدأ الحفاظ على السيادة والسلطة. رابعاً : إنعدام الرابطة السببية : المجتمعات في الشرق الأوسط لاتعي أصلاً دلالة الرابطة السببية لافي السياسة، ولافي الأقتصاد، ولا في علم الأجتماع، لأنها بالأساس لاتدرك المحتوى العملي للعلم. فالعلم في منطقة الشرق الأوسط هو إدراكات نظرية وليس محسوسات تخص تطور المجتمعات، لذلك نشاهد من جانب إن هذه المجتمعات لاتستقرىء قوة المفاهيم إنما ترددها كرسالة في المثل والغيب، ومن جانب آخر نعثر على ضعف الدالة المنطقية حيث تتم مصادرة قوة الحدس المنطقي لمصلحة بناء هيكلية هشة شخصانية ذات قاعدة لاتحكمها الأحكام والظروف الموضوعية. لنضرب مثالين متفاوتين لتوضيح تجليات موضع الفكرة. المثال الأول : قوانين الفيزياء والرياضيات : الفيزيائي والرياضي لايتبصر في العلاقة ما بين قوانينها وتطبيقاتها، أي لايعي تمام الوعي سلطة الرياضيات والفيزياء في الواقع، ويجهل مضمونهما في إدارة الأكوان. مثله مثل التاريخي الذي يحفظ أحداث التاريخ دون أن يدرك منطق هذا الأخير، أو السياسي الذي يدعي ممارسة السياسة وهو في الواقع لاينفذ إلا عمليات في السياسة. المثال الثاني : المصالحة العربية : أشد ما يستغربه المرء هو الحديث عن المصالحة ما بين الدول كمفهومها ما بين الأفراد والقبائل والعوائل. فهل الخلاف والأختلاف ما بين النظامين السوري والمصري هما شجار شخصي ما بين الرئيسين؟!! أم إنهما من جراء طبائعية النظامين ومنظومة إجراءات إستراتيجية ومفارقات سلوكية تخص، على سبيل المثال، الموقف من إيران وحماس وحزب الله !! ثم أليس من العيب أن نتكلم عن المصالحة ما بين النظامين دون أساس وأسس المصالحة ؟!!

ما الذي يجب أن يتغير؟!! وما هو معيار التغير ؟!!. خامساً. المخلب الرأسمالي : لن أطيل الحديث عنه من الزاوية الإيديولوجية، إذ بات في حكم اليقين إن الرأسمال المالي تجاوز سقف الطرح الماركسي، كما إنه ومن خلال ( وسائل الأنتاج، القوى المنتجة، علاقات الأنتاج ) الجديدة أفرز مفهوماً متمايزاً للأنسان وللرأسمالية أسميه أنتروبولوجية الأقتصاد المتفسخ، حيث وهذه هي المفارقة، إن الإنسان أضحى بالضرورة تابعاً رياضياً فيزيائياً له. أما من الجانب السياسي الرأسمالي، فإن الإدارة تصرفت بغباء مطلق تجاه شعوب المنطقة وتجاه أرضاء تفسخ الرأسمال المالي. فبعد أن قضت على صدام أنبغى عليها إقامة حكومة موالية لها في سوريا لتحييد الشر الإيراني وتقزيم دور حماس وحزب الله، لأجل منح الديمقراطية القانونية لشعوب المنطقة وفرصة أنتعاش للرأسمال المالي المتفسخ. لكن الذي حدث إن الإدارة الرأسمالية قد قدمت المنطقة فريسة سهلة للمشروع الفارسي، لإن إرادتها أخفقت في إدراك تصور واضح لحيثيات بوادر معادلات جديدة، كما إنها رضخت للإرادة الإسرائيلية في الإبقاء على لعبة الأمم في الشرق الأوسط، حيث أهم مسوغات أستمرارية ( إسرائيل، سوريا، أيران ) على النمط القديم وهو العنف والعنف المضاد. سادساً. المخلب الفارسي : لقد بان للعيان إن خطر المشروع الفارسي أوشك أن يهدد منطقة الشرق الأوسط، وهو لايهدده من زاوية محددة، ولافي مكان معين، أو في بلد واحد، إنما يهدده في كليته، في مفهومه، وثقافته، تاريخه، مستقبله، وفي جغرافيته ونسمته. وتبدأ الإشكالية فيه من النقاط التالية. النقطة الأولى : ولاية الفقيه : التي تعتمد على عقائدية مختارة تاريخية معينة، وتلتزم حصراً بمصلحة الأمن القومي الفارسي، وتفرض ذاتها على نفسها وعلى الآخرين كمرجع وحيد أوحد في العلاقة مع الذات الإلهية، ومابين البشر، وفي التصور الفكري الفلسفي للكون، وفي الثواب والعقاب. وكل ما خلا هذا هو من نافل القول ويحتسب ( بضم الياء ) خطيئة وإثماً لاتغتفران. من هنا ندرك ولانستغرب قول السيد حسن نصر الله، إنه تابع لولاية الفقيه، وهو مثبت أصلاً في الخطاب التأسيسي لحزب الله. النقطة الثانية : الإقصاء الأنطولوجي : لايتمتع المشروع الفارسي بالروح القومية الشوفينية العنصرية العصبوية فقط، فهذه أمست من المسائل التقليدية التافة، إنما يعتبر كينونته مصدر الأخلاق والتشريع والمفاهيم الإنسانية الأساسية ( العدل، الحرية، المساواة )، وهو لايعتبر ذلك من الزاوية الإجتماعية، إنما يتصورها من الزاوية الأنطولوجية، لذلك فإنه يحتوي على الإلغاء والإقصاء الطبيعيين لكل ماهو ليس فارسياً ( ولاية الفقيه ). النقطة الثالثة. البعد الآخر : لاينكشف المشروع الفارسي على نفسه ضمن الدولة الإيرانية إنما يصنف ذاته ضمن بعدين متكاملين في التاريخ الكلي والجغرافية اللامحدودة. البعد الإرتفاعي الذي يضفي على نفسه صفات ونعوت غير أرضية. والبعد الفرضي الذي يقتات من مفهوم الوظيفة التاريخية أو الفرض التاريخي. وهذان البعدان، مع المفاهيم الأخرى، هما أساس التوسع الفارسي في المنطقة. من هنا ندرك القصد الخفي والمبيت في علاقة إيران مع سوريا وحزب الله وحماس، وفي سيطرتها على منافذ العراق، وفي تقويضها أمن وسكينة اليمن ودول الخليج.

هيبت بافي حلبجة