تشكل الديانة أهم عنصر من عناصر الاختلاف بين الشعوب والمجتمعات البشرية، فهي التي تعطي لهذا الاختلاف قوة وتمنحه هوية، فالمسلمون عرفوا بهويتهم الإسلامية المتمحورة حول الدين الإسلامي، والغربيون عرفوا بهويتهم المسيحية، والصينيون بهويتهم الكونفشيوسية، والهنود بالهندوسية..الخ، الأمر الذي ولد ارتباطا عميقا بين كل حضارة من هذه الحضارات و مجموعة النصوص والتعاليم التي ينتجها الدين الذي يخصها، ليشكل جزءا مهما من موروثها ومنهاجا لمسيرتها وحياتها، وبالتالي حرصت مختلف الحضارات على الحفاظ على دياناتها حتى تكون قادرة على تدعيم نسقها و هويتها بإزاء الحضارات الأخرى، لاسيما المتفوقة منها على وجه الخصوص.
ولو طالعنا معظم المناهج الدينية التربوية المعمول بها في مختلف جهات العالم، لوجدنا أنها ترتكز على هدفين أساسيين : أولهما تقوية دعائم الإيمان بالديانة ومحاولة إبرازها على الديانات الأخرى، من خلال اعتماد الجدل اللاهوتي وتشريح الديانة وطرحها بما يتناسب وأصول التربية، وثانيهما اعتماد النصوص والتعاليم الدينية لتلك الديانة كوسيلة لدعم القيم والأخلاق الفاضلة، ففيما يخص هذا الأمر ربما تمتلك هذه المناهج قيمة تربوية مهمة، لأنها تستفيد من تأثير تلك الديانة في نفوس معتنقيها لتحقيق الأهداف التربوية المنشودة، لكن لايتم غالبا تحقيق هذا الهدف بالشكل المأمول، لان المناهج المتبعة ليست جميعا بذات المتانة، ناهيك عن حرصها المبدئي على تعميق الإيمان في نفوس المتعلمين وتقديم ذلك حتى على الحاجة التربوية، الأمر الذي قد يولد تناقضات كبيرة ربما تنعكس سلبا على القيمة التربوية لتلك المناهج.
وما يحصل في عالمنا العربي والإسلامي ربما يدعم هذا الاستنتاج، إذ تحولت المدارس إلى نسخ من المساجد لاتكاد تختلف عنها إلا بالشكل، وإلا فهي من حيث الجوهر متشابهة في انصرافها إلى زرع القيم الأيدلوجية و التعبوية في نفوس المتعلمين، و لعل تحويل المناهج الدينية التربوية إلى مناهج دينية صرفة هو خير تأكيد لهذه الحقيقة التي باتت تشكل سمة بارزة للكثير من مناهجنا التربوية، إذ بدلا من أن تهتم تلك المناهج باستخدام الدين كوسيلة لزرع القيم الايجابية والفاضلة، باتت تستخدم كوسيلة لعرض القضايا الفقهية الصرفة أو المسائل التي تخص الجدل بين الأديان، بهدف خلق أجيال من المؤمنين المتعصبين لدينهم المبغضين لأتباع الديانات الأخرى، حيث يسبب ذلك تعميق الهوة أو توسيع الخلافات بين الفئات الإنسانية المختلفة، فليس هناك شك في أن العداء العربي ( الإسلامي ) ndash; الإسرائيلي هو في معظمه عداء ديني، ولولا وجود أسس دينية لهذا العداء لربما أمكن الوصول إلى حل ما للقضية الفلسطينية وينهي مأساة شعبها، لكن تلك الحلول سرعان ما يتم تشويهها من قبل النخب المتعصبة، الذين يقومون بطرحها أمام الناس على أنها مجرد مشاريع تافهة يراد بها اهانة الدين لحساب دين أخر، ونفس الحال يصح على العلاقة مع الأوربيين، فلولا التباين في الدين بين العرب والأوربيين لربما توسعت الشراكة بين الطرفين ولغدت الروابط أهم من الفوارق، وبالتالي ربما أمكننا إدراك هذه الحقيقة واعتمادها بالشكل الذي يجنبنا إثارة الدين ضد نهجنا التربوي.
فللتربية أهداف قد لاتكون متطابقة مع الأهداف التي ينشدها الدين، وليس من الضروري أن نخلط بينهما تعسفا بما يجعل من كل منهما أداة بيد الأخر لتحقيق مأرب لاعلاقة له بها، الدين بجعله أداة للتعبئة وعاملا من عوامل التغذية الأيدلوجية، والتربية بوصفها أداة للتبشير الديني أو المذهبي أو الأيدلوجي، وهذا مايجعلهما قاصرين عن الإيفاء بمهامهما الخاصة، فإدخال الدين في التربية هو في حقيقة أمره سلاح ذو حدين، فهو قد يدعم الدين بما يجعله يحافظ على حضوره في الواقع الاجتماعي، لكنه من جانب أخر قد يضعف من مهمة التربية في دعم اللحمة الوطنية وتقوية الروابط بين الفئات داخل الوطن الواحد، الأمر الذي يخلق تناقضات قوية تضعضع اللحمة الوطنية وتخلخل العلاقة النسيجية بين أطياف المجتمع، التي قد تجد في الأنظمة والمناهج التربوية مايجرح مشاعرها أو يخل بحقوقها أو قد يعرضها لمشاعر الكراهية، فتكون هدفا سهلا للمتطرفين وأصحاب الغرض السيء، وهذا ماحصل في الكثير من بلدان منطقتنا، حيث تغذي بعض المناهج التربوية عوامل الاختلاف الديني والمذهبي وتضع المجتمعات على شفى الفتنة، كما يحصل عادة في مصر والجزائر والمغرب وبلدان الخليج العربي وإيران وباكستان وأفغانستان وغيرها، لكن أهم مثال على المدى الذي يمكن أن يسببه هذا النوع من المناهج العاطفية هو الوضع العراقي الذي أصبح ككرة نار مشتعلة بعد أن وصل الخصام الديني والمذهبي حد القتل والاغتصاب.
لكن ماهو الحل الذي يمكن أن يعالج هذا الأمر؟ هل نلغي المناهج الدينية ونستبدلها بمناهج أخلاقية عامة، أم نؤسس لمنهج ديني عالمي، أي متفق عليه دوليا ليكون منهاجا للمدارس في كل أنحاء العالم. لاشك أن إلغاء منهج الدين من التعليم قد يحمل بعض الحل، ويقدم طريقة للتخلص من استخدام المدارس في التعبئة الدينية أو في نشر الخصومة والكراهية بين البشر، لكن هذا الأمر قد لايحل المشكلة تماما، لان أنصار التعبئة سوف يلجئون إلى اعتماد وسائل بديلة تعوض خسارتهم لميدان التعليم، فيحولون وجهتهم نحو الإعلام والمؤسسات الدينية والاجتماعية الأخرى جاعلين منها منابر لنشر التعصب والكراهية، إذن لا مناص من وضع منهج تربوي عالمي للدين، لايقتصر مضمونه على نصوص أو تعليمات دين بعينه، بل يجب أن يضم نماذج من نصوص وتعليمات من مختلف الأديان الرئيسية في العالم، فيكون الهدف الأساس لهذا المنهج العالمي تربوي محض، ما يساعد على تدعيم اللحمة الإنسانية وتخفيف الاحتقان بين شعوب العالم، فهل لهذا من سبيل؟ نتمنى ذلك بل نرجوه من اجل إنسانيتنا الجريحة.
باسم محمد حبيب
التعليقات