لم تزل واقعة السقيفة تثير فضول الكثير من الكتاب رغم أنها أشبعت بحثا وتفسيرا والسبب لان هذه الحادثة الكبيرة كانت تمثل ركنا مفصليا في أيدلوجية مختلف التيارات والمذاهب الإسلامية وبالتالي حملت وجهين متناقضين الوجه الذي يعبر عن أهميتها في مسار الإسلام بشكل عام و الوجه الذي يؤشر على دورها في تشكيل القراءة البنائية للكثير من المذاهب والتيارات الفكرية والسياسية ومع وجود هذا الكم الهائل من الاستثمار غير المقنن للحادثة بقيت الحادثة أسيرة الطرح الأحادي الذي ينبذ كل ما يتعارض معه لان كل طرف إسلامي هو في الحقيقة مكتفي بذاته ويعد نفسه المشروع الحقيقي للإسلام فهذه المذاهب والتيارات هي في اغلبها لا تعد نفسها جزءا من بنية عامة تجمع مذاهب وتيارات شتى بل أنها هي التي تمثل تلك البنية بخلاف غيرها فالذي نحتاجه ليس إنتاج آراء أنانية وان تكن متعارضة مع سواها من الأنساق المذهبية الأخرى بل أراء متعارضة داخل النسق العام للإسلام ككل وهذا بالتأكيد لا يفترض الإيمان بتلك القراءات بل فقط لتكون تلك القراءات سبيلنا لفهم الإسلام بشكل مرن بعيدا عن هيمنة الإيمان الديني أو البعد الطائفي الذي له ماله من الحضور والتأثير في الواقع المعاش.
إن الواجب العلمي يفرض علينا العمل على إنزال كل الأطروحات الجازمة من عليائها الأيدلوجي ووضعا على طاولة النقاش التحليلي المتجرد من أي عاطفة فالذين أكدوا أن خلافة أبي بكر هي نتاج شورى وتوافق بين الشخصيات الإسلامية النافذة آنذاك يتجاهلون بكل تأكيد جهود عمر الكبيرة في ذلك بل وحتى دور التخويف والتهديد في صنع ذلك الحدث لاسيما خلال الجدال الذي نشب بين عمر ممثلا عن المهاجرين و بين نخبة الأنصار حول أحقية كل منهما بخلافة الرسول وليس بمستبعد أيضا أن يكون اتفاق السقيفة قد بني أيضا على مصلحة مشتركة بين هذا الطرف من المهاجرين وجماعة الأنصار بعد أن أدرك كلاهما أن الطرف الأخر ومعه متنفذي مكة ربما يمثلون تناقضا مع ما يطمحون أو ما يأملون لاسيما الخشية من عودة السيادة إلى مكة وتأثير ذلك على مكانة المدينة التي ارتفعت في عهد الرسول وهو أمر قد يؤكده بقاء السلطة في المدينة في عهد خلفاء العهد الراشدي الثلاث الأوائل أما الذين تبنوا الرأي الثاني فهم أيضا يتجاهلون رأي الأغلبية التي اختارت أبي بكر وهذا الاختيار هو الذي ثبت هوية الإسلام كما هي الآن لأنه انعطف من مهمة تشكيل نسق الإسلام إلى مهمة قيادته أما الذين يتبنون البعد الإلحادي فيتناسون قوة الحدث وشجاعة المؤسسين له وبالتالي ليس لنا من سبيل لتجاوز محنة القراءة المجتزأة إلا تأسيس قراء محايدة مفتوحة على جميع التفسيرات وتتعاطى مع كل الآراء و دون الانسياق خلف أحكام قاطعة أو جازمة فربما المسكوت عنه في هذا الحدث أكثر أهمية من المباح والظاهر وربما المهمول قرائيا أو تحليليا أكثر قيمة من المطروق أو المعلن عنه وعلينا أن نتأمل الأحداث من منظار أخر ليس لكي ننتقص من الشخوص أو ننال من الإيمان بل لكي نمدد الحدث إلى جميع أبعاده التحليلية حتى يكون مفهوما أكثر ولا نضطر إلى الانعزال في قراءة مخنوقة لايمكنها أن تروي ضما معرفة الحقيقة أو تفتح مغاليقها فكثير من الآراء التي نتجنبها لن تكون قادرة على نسف الكثير من معتقداتنا ومتبنياتنا بل قد لا تستطيع أن تهز ما نعتز به من ذاكرتنا أيضا فلا خلاف البتة على مكانة أبي بكر في سياق الدعوة الإسلامية ولا يمكن نكران مواقفه القوية المؤيدة للرسول (ص) بل لايمكن نفي تصديقه وتأييده الكاملين للرسول وتضحيته بالغالي والنفيس من اجله لكن السؤال هل يأتي ذلك لدافع أيماني محض ؟ أم بدوافع أخرى تتعلق بشخصية أبي بكر نفسه والواقع الموضوعي الذي يحيط بها فطرح رأي ما لايعني بالضرورة إننا انتقلنا به من المطروق تاريخيا إلى المعتقد به وحتى محاولة قراءة أبعاد مواقف أبي بكر من الدعوة الإسلامية لاتعني على الإطلاق نفيا لمواقف أبي بكر المثيرة للإعجاب بل على العكس أنها تأكيد على أن تلك المواقف نابعة من دواعي وأسباب يمكن تعليلها وفهمها منطقيا فليس مما يخالف القيم السليمة أن يكون هناك ثمن لتلك المواقف وليس من المنطقي تجاهل حاجات وأماني أبي بكر نفسه لان في ذلك أنانية كبيرة فمواقف أبي بكر ليست بالضرورة بلا ثمن ولا ينقص قيمتها أن تكون كذلك فقد يكون ثمنها احتفاظه بصداقة الرسول أو تطلعه للجنة أو حتى إذا تطرفنا وقلنا انه ينطلق في ذلك من شراكته للرسول في هذه الدعوة لاباس دعونا لاننفعل ولنتفهم حتى تلك التي تشكك في مصداقية المواقف وفي براءتها لاباس أن ننساق خلفها من اجل أن نفهم الحدث بشكل جلي وندرك جميع أبعاده فإصرار الرسول على بعث حملة أسامة وإصراره على أن يكون أبي بكر وعمر فيها لا يمكن أن يعزل عن رغبته في كتابة وصية( لن يضل المسلمون بعدها أبدا ) وصية لاشك أنها غير مقبولة من البعض بل لايمكن أن يفهم إصرار أبي بكر وعمر على ترك البعثة والعودة إلى المدينة إلا ضمن هذا السياق الحدثي الكبير ف أبي بكر الداعم الأول للرسول أو الشريك أو الصديق الوفي أو أو... يملك بلا شك حقا كبيرا في الخلافة لكونه المقرب أو من بين الأكثر إسهاما في مسار الدعوة أو الشريك الذي يمسك بالكثير من الخيوط دعونا لا نتحفظ ولنقل كل شيء هل يمكن أن نتجاوز تلك الحقائق التي نحملها في تقييمنا لذلك الحدث القديم لاشك إننا سوف نقر سواء فهمناه بهذا الشكل أو بذاك أن تلك المواقف جميلة ومخلصة ورائعة وبالرغم من المؤرخون قد مروا على تلك الإحداث مرور الكرام أو ربما اخفوا الكثير من معالمها أيضا إلا إننا لابد أن ندرك أن لهذا الحدث تأثيره وتجلياته الكبيرة ولابد أن نفهمه على انه ( فلتة وقى الله المسلمون شرها ) كما قال عمر بن الخطاب وليس بالضرورة أن يكون قصد عمر من ذلك القول المثير انه كان باعثا للفتنة بوجود ثلاث تيارات كانت متنافسة على خلافة الرسول بل وبوجود سر كبير كاد أن يفشى سر لم يرد له عمر أن يكون حاضرا في تلك اللحظة الخطيرة من مسار الحدث الإسلامي فأهمية عمر لاتنبع من دوره المباشر في الدعوة ولا من فعاليته التي لاتزيد كثيرا عن فعالية سواه بل لأنه من جماعة أبي بكر وأحداث التاريخ تثبت أنهما كانا متقاربين طوال الفترة التي سبقت وفاة الرسول وعمر قد يكون (أو لا يكون )هو لولب الأحداث التي حصلت خلال السقيفة أو كان مدبرها كما يطرح البعض ولم يفعلها ( أو فعلها ) من اجل هدف أو غاية ما كما يطرح آخرون فقد يكون ( أو قد لا يكون) أن عمر نشد هدفا أخر انطلاقا من علاقته ب أبي بكر وأراد أن يدعم أحقيته في خلافة الرسول بعد أن وجد أن هناك من يهدف إلى تغيير المعادلة القديمة والانقلاب على أبي بكر فهذا التفسير الذي يحمله الحدث من بين عدة تفاسير أخرى لا يجب أن يهمل من طرحنا انطلاقا من غرابته وندرة الشواهد التي تدعمه فقد يكون لهذا القسط من التفسير شواهد تم طمسها انسياقا مع رغبات الحكومات المهيمنة على كتابة التاريخ وهي في جلها حكومات لاتريد للحدث أن يتجاوز معطياته المقبولة دعونا نتعمق أكثر في هذا الحدث المشكل ولنناقش أفعال الرسول لحظة الحدث بطريقة مسؤولة فهو من جانب قد عهد بإمامة الصلاة بعده لأبي بكر كما أشار إلى ذلك معظم المؤرخين قال أبو هشام نقلا عن الزهري قال حدثنا حمزة بن عبد الله بن عمر أن عائشة قالت لما استعز برسول الله قال (مروا أبي بكر فليصل بالناس ) ثم أكده ثلاث مرات وقريب من ذلك الرواية التي نقلت عن عبد الله بن زمعة التي ذكر فيها أن الرسول لما حضرت الصلاة قال ( مروا من يصلي بالناس ) قال فخرجت فإذا عمر في الناس فقلت قم يا عمر فصلي بالناس فقام فلما كبر سمع رسول الله صوته وكان عمر رجلا جهورا قال فقال رسول الله (فأين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون يأبى الله ذلك والمسلمون ) ( انظر: سيرة بن هشام. طبعة دار الفكر. الجزء الرابع.ص 234 ) لكنه من جانب أخرى هدف إلى إرسال أبي بكر وعمر في بعثة أسامة بل وأراد أن يكتب وصية أصر عمر على منعها ربما رأفة برسول الله أو ربما خشية مما قد تحمله الوصية من تناقض مع مواقف معلنة ومصالح مكفولة ولو اقتنعنا جدلا بهذا الرأي الأخير فهل كان عمر يفعل ذلك لمخطط رسمه بنفسه كان أبو بكر أداته فيه أم انه كان مأمورا بذلك من أبي بكر نفسه ومن خلفه جماعة مؤيدة له ثم لو كان غاية رسول الله من الوصية فعل ذلك الأمر المحظور من هؤلاء لماذا فعله في هذا الوقت بالذات لماذا لم يفعله سابقا هل يشير ذلك إلى أن الرسول لم يتناول مسالة خلافته ؟ لأنه لم يكن مهتما بها أم انه يشير إلى انه كان يخشى أن يرفض البعض هذا الأمر فينشق صف المسلمين وهذا يتناقض مع ما تطرحه السير ( بتشديد الياء ) من طاعة الصحابة للرسول والتزامهم بأوامره أم أن يكون وراء ذلك سبب أخر ربما يكون اخطر بكثير سبب لابد أن نطرحه للمناقشة لكي نجعل الحدث مباحا ومكشوفا وحتى نثق بقدرتنا على المرور عبر نافذة التاريخ بسلام وأمان السؤال هنا هل كانت جماعة أبي بكر المقربة وهم جملة المهاجرين من غير أهل بيت الرسول والمقربين إليهم تعمل من اجل ضمان بقاء نهج ما وان الرسول أراد تغيير ذلك و عمل عليه في آخر لحظات حياته لكنه لم يكن قادرا على فعل ذلك الأمر بدون ترتيبات تمنع الفتنة أو تفضي إلى زعزعة البنيان الإسلامي الذي اكتمل بجهد جهيد وتضحيات جسام فهو رجل يمتلك من الفطنة ما لم يعهدها كثيرون سواه وأدرك أن المصلحة في تجنب أي هزة يمكن أن تكدر صفو النجاح الكبير للإسلام لنقل انه أراد ذلك ماذا سوف يثير مثل هذا الرأي هل سوف يفسر لنا علاقة الرسول الوثيقة بابي بكر ؟ وملازمة أبي بكر له وتضحيته في سبيله بل وعلاقة الرسول الوثيقة والمميزة بزوجته عائشة ابنة أبي بكر ولا نريد أن ننساق مع من يتطرف ويعد رقة الرسول في تعامله مع عائشة خلال محنة الافك على انه نتاج لتلك العلاقة التي اغفل التاريخ الكثير من أسرارها وهل كان الرسول حائرا بين إلحاح أهل بيته بان يخلف عليهم واحدا منهم وهذا ما طرحه العباس عم النبي لعلي في يوم وفاة الرسول حيث قال له quot; انطلق بنا إلى رسول الله فان كان هذا الأمر فينا عرفناه وان كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس quot; ( انظر: ابن هشام.المصدر السابق. الجزء الرابع ص 236 ) وبين إلحاح الآخرين بان يكون أبو بكر هو ذلك الخليفة لأنه يمثل رأي أو رغبة جماعة طائفة كبيرة من المهاجرين من غير أهل بيت الرسول.
فحتى لو قرانا التاريخ من هذه الزاوية المحضورة فلن يكون لذلك أي تبعات سلبية على ولائنا أو إيماننا بقيمة ذلك الحدث الكبير ( الدعوة ) وتأثيره الكبير فينا لان حادثة السقيفة بما تحمله من أبعاد كبيرة هي حدث خطير وهي حالة تستحق أن يلعب الجميع دورهم فيها فقد أن أوان تقدير الفعل الشخصي في حركة التاريخ بل لابد أن نعطي لهذا الفعل التقييم الذي يليق به ما يجعلنا نقابل الرأي الأخر الذي يجعل الإسلام مجرد صيرورة محركة لا متحركة ولعل هذه القراءة لاتمثل إلا وجها أخر لتلك القراءة التي تنظر للحدث الإسلامي من زاوية المجموع لا الإفراد فقد لا يكون قولنا (أن الإسلام لم ينجزه الله بل المسلمون ) ما هو إلا تعبير أخر لذلك القول الذي يطرح العكس أي ( أن الإسلام هو انجاز الهي ) لان الأفراد أنفسهم هم جزء من فعالية الله وهم بالتالي موجودون ضمن سياق إرادته وبالتالي ليس من الضير أن نفهم الإسلام بهذا الشكل وليس من المحظور أن نقراه بطريقة أخرى مميزة انه يستحق أن يقرا بكل الطرق والمناهج الممكنة و ما علينا إلا أن نأمل بأنه سيبقى موجودا في الجانب الأمين لا الخطير من أي نتيجة قد تفضي إليها أي قراءة.
التعليقات